جورج باكر

منحت ثورات الربيع العربي التونسيين حرية التصرف ازاء استيائهم

على بعد بضعة أميال شمال شرقي تونس، حيث الشوارع ذات المقاهي على جانبي الطريق و تصطف بجانب تلك الشوارع صفوف من أشجار الفكس المشذب، وسميت هذه الشوارع تيمناً بمدن أجنبية، توجد هناك مدينة فقيرة تدعى دوار هيشر ،والتي تضم ثمانون ألف نسمة، ذات الشوارع الضيقة والوعرة والصرف الصحي الذي يقع في منتصف الطريق، والمنازل المتقاربة التي تبدو وكأنها تمنع دخول الغرباء. في بداية عام 2011 ، تدفق الآلاف من الشباب من دوار هيشر وضواحٍ أخرى إلى وسط مدينة تونس للمطالبة بتنحي الرئيس الفاسد والمستبد (زين العابدين بن علي) . في غضون أسبوعين تمت الإطاحة بالرئيس زين العابدين بن علي ، وأطلق على تلك الثورة اسم (ثورة الياسمين). أصبح هذا التغيير المفاجئ بداية الربيع العربي في جميع أنحاء العالم.

جلبت الحرية في تونس الجديدة اضطرابات وكذلك فرحٌ للشعب التونسي، وأصبح دوار هيشر مكاناً للمواعظ والإحتجاجات وفي بعض الأحيان مكاناً للعنف من قبل الإسلاميين. كانت تونس دولة علمانية قبل الثورة، أما الآن فإن الرايات السوداء التي تشير إلى الإسلام الراديكالي ترفرف فوق العديد من المباني، و المتشددين المعروفين باسم السلفيين، وهي كلمة تشير إلى صحابة الرسول محمد “صلى الله عليه وسلم” الأوائل، قد استفادوا من الحرية الجديدة في فرض “الشريعة” في أحيائهم. عارض بعض من السلفيين التابعين إلى منظمة أنصار الشريعة الديمقراطية الإنتخابية، وأرادوا اطلاق انتفاضة الإسلاميين. بدأت المنظمة بمهاجمة قوات الأمن التونسية، وفي تشرين الأول عام 2012 قُتل إمام سلفي حينما انضم إلى كمين قام بها الحرس الوطني في دوار هيشر. في عام 2013 انتقل السلفيون إلى حال التخفي، وبدأ الشباب و الشابات بالإختفاء من الأحياء التونسية مثل دوار هيشر.

في تشرين الثاني، قام مهندس محلي في أواخر العشرينات من عمره يدعى (محمد) بتعريفي على دوار هيشر، قال محمد، الذي نشأ في هذه المنطقة، ” إن الأصدقاء الذين درست معهم في المدرسة الثانوية ، قد اختفى معظهم ولم يذهبوا إلى إيطاليا بل ذهبوا إلى العراق وسوريا، ولم يعد هنالك أي شباب في هذه المنطقة”. كان الأطفال يختارون ملابس لهم من القمامة، وكان هناك عدد من الشباب العاطلين عن العمل متجمعين بشكل واضح في شوارع أحياء الطبقة العاملة التي يسكنها العرب . قال محمد إن ثلاثة عشر شخصاً من حي واحد قد قتلوا في سوريا والعراق، وأشار إلى شارع جانبي صغير وقال “اختفى ثلاثون شخصاً من هذا المكان قبل أسبوعين”، كانوا هاربين من الشرطة ويعتقد أنهم قد انضموا إلى تنظيم الدولة الإسلامية أو داعش الإرهابي في ليبيا – التي أصبحت وجهة شائعة لدى الجهاديين التونسيين، ونادراً ما تحدث عوائل السلفيين عن رحيل أبنائهم خوفاً من المضايقات من قبل الحكومة التونسية. قال محمد “إنه أمر مفاجئ عندما يرحلون، ولكننا نعلم من هم الأشخاص الذين يفكرون بالرحيل”، وأضاف “إن السبب الرئيس لمغادرتهم هو (التهميش والبطالة)”.

صديق لمحمد يدعى نبيل السليتي، وهو مهندس اتصالات عاطل عن العمل، غادر دوار هيشر للانضمام إلى تنظيم داعش الإرهابي في سوريا. وقال لي أسامة رمضاني، وهو رئيس تحرير (ويكلي العربية) في تونس:” إن الأشخاص المتطرفين في العالم العربي هم على الأرجح من يعملون في المجالات التقنية أو العلمية الذين يفتقرون إلى التعليم الإنساني خلال دراستهم التي تعزز الفكر النقدي”. قبل مغادرة نبيل السليتي الى سوريا، سأله محمد عن سبب ذهابه للقتال، وأجابه السليتي ” لا أستطيع أن أقوم ببناء أي شيء في هذا البلد ، و لكن تنظيم الدولة الإسلامية يعطينا فرصة لإنشاء شيء ما ، و لصنع القنابل ، ولاستخدام التكنولوجيا”. في تموز عام 2013، فجر السليتي نفسه بعمل انتحاري في العراق.

مررت أنا ومحمد بجانب مقهى بسيط حيث يتجمع رجال في منتصف العمر يدخنون ويشربون القهوة، وهو مكان يرتاده شاب محلي يدعى حمزة المغراوي ، الذي ذهب إلى سوريا وانضم إلى تنظيم جبهة النصرة التابع لتنظيم القاعدة. عاد حمزة الى دوار هيشر عام 2013 ، وقام بسرد قصص حربية في مقهاه المفضل (منتهكاً سياسة تنظيم القاعدة التي تمنع التدخين) . عاد المغراوي إلى جبهة القتال منضماً إلى تنظيم داعش الإرهابي ، وفي شهر شباط أصبح حمزة مشهوراً في دوار هيشر حينما نشر شريط فيديو على اليوتيوب يظهر فيه عملية مساعدته في إلقاء القبض على الطيار في سلاح الجو الأردني، معاذ الكساسبة، الذي أُحرِق حياً. قُتل المغراوي في أيلول إثر غارة جوية أمريكية.

في مقهى على أطراف دوار هيشر ، التقيت بصديق آخر لمحمد -الذي سأدعوه باسم كمال- وهو شاب في منتصف العشرينات من عمره يرتدي سروال جينز قديم، وتظهر ملامح الألم في عينيه، كان يعمل فيما مضى في مجال السياحة، إذ عمل كمرشد خاص للأجانب وكمنسق أغانٍ في تونس، هو الآن عاطل عن العمل. تعد السياحة إحدى أهم المصادر الإقتصادية في تونس والذي انخفض بنسبة 50% بعد أحداث 26 حزيران من العام الماضي، عندما قام طالب يبلغ من العمر ثلاثة وعشرون عاماً والذي يحب الرقص بإطلاق النار من سلاح أتوماتيكي على سائحين أجانب في شاطئ قريب من منتجع سوسة السياحي، هذا الشاب الإرهابي كان قد تدرب في معسكر لتنظيم داعش الإرهابي في ليبيا و قام بقتل ثمانية وثلاثين شخصاً،  ثلاثون شخصاً منهم كانوا سياحاً بريطانيين ، وذلك قبل أن تقوم رجال الشرطة بإطلاق النار عليه وقتله.

انضم كمال إلى ثورة الياسمين، ولكنه كان غاضباً جداً لأن نتائج الثورة لم تحسّن من آفاق الشباب التونسيين من أمثاله. عمل كمال لعدة أشهر لدى شركة إيرباص جنوبي تونس ، ولكن بسبب تدني الأجور قرر أن يترك العمل للمحاولة في كسب عيشه في مجالات الإقتصاد غير الرسمي في تونس. عمل معظم الرجال من عائلته في الشرطة، ولكن تم رفض كمال في مكتب التوظيف في الشرطة دون ذكر السبب. كان كمال جالساً في المقهى وينظر إلى الأشخاص حوله الجالسين في الطاولات المجاورة وقال بصوت منخفض إلى ما أسماه “بالمشروع”، وقال “إن تنظيم الدولة الإسلامية سيحكم العالم”، ولن يكون هناك سوى راية “الله”، وستحل العدالة والسلام في جميع أنحاء العالم، وأن الذين قاموا بأعمال ظالمة وباطلة والذين قتلوا الناس سيتم قتلهم تحت ظل القرآن. سيموت بعضهم في محاكمات علنية أمام أعين الجميع. وأكمل قائلاً: ” في تونس، فإن الرئيس وجميع المسؤولين في حكومته سيتم إزالتهم، وسيحصلون على مايستحقون ، إنهم كفار”.

في عام 2013 ، انضم كمال إلى المظاهرات التي قام بها أنصار الشريعة، إذ كان يعرف الإمام الذي قُتل في دوار هيشر، والعديد من أصدقاء كمال قد قتلوا خارج تونس بعد أن أصبحوا جهاديين؛ و أولئك الذين استطاعوا العودة إلى تونس قد تم سجنهم بسبب دعمهم للإرهاب. لم يكن كمال مستعداً للقتال في سوريا ولكنه كان يخشى من فكرة البقاء في تونس. على بعد مسافة أقل من ساعة من مدينة دوار هيشر ، تقع المطاعم الراقية للامارسا الممتدة على طول البحر الأبيض المتوسط، وهي موطن للأثرياء والأجانب وموطن الممرات المائية الرومانية القديمة لقرطاج، والتي تمتد على جانبها منازل فخمة يسكنها أقرباء بن علي الفاسدين ، وأضاف كمال قائلاً:” الأثرياء في تونس يزدادون ثراءً بينما الفقراء يزدادون فقراً”.

كان هناك شاب تونسي آخر يدعى أسلام سولي جالس معنا على الطاولة كان يترجم الكلام لنا. كان سولي من النخبة ويدرس ليكون طبيب اشعة وكان والده أستاذاً معروفاً في الأدب العربي. بعد مجزرة منتجع سوسة السياحي ، شكل سولي مع أصدقائه مبادرة الشباب الوطنيين ضد الإرهاب. توفر هذه الجماعة مجموعة من الأنشطة للشباب الفقراء في مراكز ترفيهية، كما تقدم جلسات إرشادية ضد الجهاد. عندما وصف سولي الجهود التي تبذلها المبادرة قام كمال بالاستخفاف بها و قال “إن سولي وأصدقائه هم مجرد أطفال أثرياء يسعون إلى المزيد من المال والاهتمام”. أخبرني كمال “إن الشباب يتم فقدانهم” فليس هناك عدالة. وقال كمال “إن دوار هيشر هو المفتاح لتونس” وأضاف :” إذا أردت أن توقف الإرهاب، فقم ببناء مدارس جيدة، ووفّر وسائل النقل – لأن الطرق سيئة للغاية، وقم بتوفير وظائف للشباب ، وبذلك سيصبح دوار هيشر مثل بقية المناطق التونسية التي يذهب إليها الأجانب للسياحة.

على الرغم من كلام كمال عن الجهاد، فقد بدى وكأنه شاب قد يستغل أي فرصة للذهاب إلى حفلة تقام في النادي، كان حريصاً على ذكر أصدقائه الأوربيين ومناقشة الدين معهم – وليس المشروع . أدهشني كمال حينما أدان مجزرة منتجع سوسة السياحي والهجوم الإرهابي في أذار عام 2015 على المتحف الوطني في تونس (الباردو)، عندما قتل ثلاثة مسلحين ما يقارب اثنين وعشرون شخصاً ، إذ قال إن الضحايا أبرياء،  ولايزال كمال يحلم بأن يصبح رجل شرطة . إن معرفة كمال بالدين الإسلامي بدائية جداً، وإن ولائه لتنظيم داعش الإرهابي مشوش ومؤقت – ما هو إلا تعبير عن الغضب وليس أمراً فكرياً. ولكن في دوار هيشر فإن الغضب يعد أمراً كافياً لدفع الشباب لمغادرة بلدهم والقتال.

سألت كمال كيف يرى مستقبله ، تحدث بداية باللغة العربية التونسية ولكنه انتقل إلى اللغة الانجليزية وقال “مظلم”.

وفقا لتقرير صدر مؤخرا عن جماعة صوفان، وهي شركة تقدم استشارات أمنية واستخباراتية، إن بين ستة وسبعة آلاف شخص تونسي قد ذهب للجهاد في سوريا والعراق. (لا تعترف وزارة الداخلية التونسية سوى بنصف هذا العدد.) وخمسمائة تونسي آخرين على الأقل عبروا الحدود الليبية. ووفقاً لبعض التقارير، فإن التونسيين يشكلون نصف أعداد الجهاديين في ليبيا. عاد ما يقارب سبعمائة شخص إلى وطنهم، وتدعي الحكومة أنها قد منعت ستة عشر ألف تونسي من الانضمام إلى الجهاد. إن هذه التقديرات تجعل تونس، وهو بلد يضم أحد عشر مليون نسمة، أكبر منتج للجهادية، متقدما بفارق كبير عن أقرب منافسيها، المملكة العربية السعودية وروسيا، حيث يضمان سكاناً أكثر من تونس بكثير إلا أن أعداد مقاتليهم في سوريا والعراق يعادل نصف أعداد التونسيين .

أخبَرني جهادي سابق “ربما أنها طبيعة التونسيين – نحن نحب المخاطرة. هناك مليون شخص تونسي يسكنون ويعملون في أوروبا، “العديد من تجار المخدرات هم تونسيون، والعديد من مهربي البضائع بين تركيا واليونان هم تونسيون، والكثير من المتاجرين بالبشر في بلغراد هم تونسيون ، وقراصنة الإنترنت كذلك – توخوا الحذر من التونسيين فهنالك شبكة كاملة منهم.

إن الجهاديين التونسيين قد كونوا سمعة تورطهم في استخدام العنف الشديد، فالتونسيون وجهاديون من شمال أفريقيا في العراق قد عُرِفوا بتطوعهم ليصبحوا مفجرين انتحاريين. وأخبر سوري فار من منطقة دير الزور “للدايلي بيست” “إن أسوء المقاتلين في التنظيم هم التونسيون ، مضيفاً:” ليست لديهم أي أخلاق، ولا يعرفون الإسلام، وفاسدون، ويعاملون الناس بصورة سيئة ، بينما المقاتلون من دول الخليج ليسوا بنفس درجة سوء التونسيون”. في تونس ، قالت امرأة تبلغ من العمر ستة وعشرون عاماً تدعى “اُنس بن عبدالكريم” التي تقود منظمة مدنية تدعى “البوصلة” :”إن التونسيين الذين يذهبون إلى الخارج هم الأكثر وحشية- ويظهرون الجانب غير الإنساني عند ذهابهم إلى المناطق الجهادية” ،وقد بررت هذا بقولها: ” عندما يشعر التونسي بأنه لا ينتمي إلى تونس، وعندما يشعر بأن تونس لا توفر له شيئاً ، فإن هذا الظلم الذي تعرضوا له في بلادهم قد ساهم كثيراً بخلق تلك الصورة”. وأضافت :” إن ثورة الياسمين قد سُرقت من الشباب.

يعد تعليم الدين الإسلامي إجباري في تونس وهو سطحي ويعتمد على أسلوب التلقين، فهناك مواد قليلة تتحدث عن الكلام الإلهي الذي يحافظ على الشاب من أن يصبح شخصاً متطرفاً.  قال رمضاني ، رئيس تحرير جريدة ويكلي العربية، “إن الروايات المتطرفة تخبرك بأن كل ما تعلمته عن الإسلام هو خاطئ وعليك التخلص منه – فنحن لدينا المعلومات الجديدة. إن الإسلام القديم والتقليدي والمعتدل لا يقدم لك نفس أسلوب سرد الروايات الحماسية كداعش، فهو لا يوفر لك فرصة الإستمتاع وربما لا يسمح لك بإظهار الوحشية التي تكمن داخلك. داعش يقدم لمجاهديه جنة زائفة للعقول المريضة”.

انطلقت الثورة التونسية من بلدة ريفيية تدعى سيدي بوزيد  في 17 كانون الأول 2010، عندما رفض محمد البوعزيزي ،الذي يبلغ السادسة والعشرين من العمر، دفع رشوة صغيرة. حاول مفتشي البلدية مصادرة صناديق الفاكهة وميزان إلكتروني من عربته، قام محمد بمقاومتهم وعندها صفعته شرطية أمام حشد من الناس. قالت والدة البوعزيزي في وقت لاحق :” تلك الصفعة قد أثرت فيه بشكل كبير ، ودمرت كبريائه” . ذهب البوعزيزي إلى مبنى حكومي وسكب وقوداً على جسده وقام بإشعال نفسه ، توفي البوعزيزي بعد ثمانية عشر يوماً. كان ذلك عملاً احتجاجياً دراماتيكياً من رجل بسيط غير سياسي في مكان غريب؛ كان من الممكن أن يكتب هذه القصة سيلونه أو مالرو. إن عمل البوعزيزي هو ما أثار خروج التونسيين للمظاهرات التي أزاحت زين العابدين من السلطة بعد أيام من وفاة البوعزيزي. وامتدت هذه المظاهرات لتحرك الشعب المصري وخروجهم في المظاهرات في ميدان التحرير في القاهرة، ومن ثم انتشرت في أنحاء العالم العربي. إن حريق البوعزيزي مازال مشتعلاً إلى هذا اليوم.

تعد تونس البلد الوحيد الذي خرج من مظاهرات عام 2011 بحكومة ديمقراطية فاعلة، بينما عادت كل من مصر وليبيا واليمن والبحرين وسوريا إلى الحكم الديكتاتوري أو عمّت الفوضى في أرجاء تلك البلدان. ولكن في تونس فقد أقّر مجلس النواب المنتخب ديمقراطياً دستوراً متجدداً عام 2014 ، وتم إجراء ثلاثة انتخابات حرة ونزيهة.

تم مناقشة قوانين حول التحرر الإقتصادي ، ومنح العدالة لأعضاء من النظام القديم، بشكل موسع في البرلمان، وأما صراع السلطة فقد تم مناقشته بشكل مفصل بعد تنازلات قدمت بصعوبة. أضافت تونس مابعد الثورة كلمة “الكرامة” في شعارها الوطني ، ووضعت صورة محمد البوعزيزي على طابع بريدي.

التعليم الديني ضحل في تونس ، ولذلك يوجد القليل من الأفكار الإلهية التي تمنع الشباب من التطرف تصوير سباستيان / نور لصالح مجلة نيويوركر
التعليم الديني ضحل في تونس ، ولذلك يوجد القليل من الأفكار الإلهية التي تمنع الشباب من التطرف تصوير سباستيان / نور لصالح مجلة نيويوركر

لدى تونس مزايا عديدة ليست متوفرة في الدول العربية الأخرى؛ إذ لايوجد في تونس انقسامات عرقية أو طائفية ، ولا يوجد فيها ثروة نفطية التي تجتذب التدخل الأجنبي، ويوجد فيها الإسلام المعتدل ، ويوجد فيها عدد قليل جداً من الأميين ، وجيش صغير غير تابع لسياسة ما. في العام الماضي، تم تصنيف تونس كبلد (حر) وذلك وفقاً لمنظمة البيت الحر أو (فريدم هاوس) . في كانون الأول حصلت أربع منظمات للمجتمع المدني التونسي والمعروفة باسم “رباعية الحوار الوطني” على جائزة نوبل للسلام، وذلك لمساعدتهم في تعزيز المفاوضات بين الأحزاب السياسية والمواطنين ومساعدة البلاد على تجنب مصير جيرانها. تعد تونس البلد الرائد في العالم العربي في تصدير المقاتلين الأجانب، وهي أيضاً أفضل مصدر للأمل للعالم العربي لحصولهم على الحرية.

لم تقم الديمقراطية التونسية بجعل الشباب التونسيين جهاديين، بل أعطتهم حرية التصرف حول استيائهم. خلقت الثورة ظروف ملائمة لازدهار التطرف عن طريق رفع ومن ثم إحباط توقعات الشباب. لقد اشتبكت الحرية الجديدة مع عادات الشرطة القديمة – إذ تم منع الشباب التونسيين بشكل مفاجئ من الإنضمام إلى الجماعات المدنية والسياسية ، وقامت الشرطة بمضايقتهم بسبب معارضتهم للحكومة. من المرجح أن التونسيين المتعلمين أكثر عرضة بمرتين من أن يصبحوا عاطلين عن العمل من التونسيين غير المتعلمين، وذلك لأن الإقتصاد يخلق عدداً قليلاً من الوظائف المهنية. ولا يستطيع ثلث خريجي الجامعات من الحصول على عمل. قاد إحباط الشباب إلى خروجهم للمظاهرات عام 2011 ، ومثل هذا الإحباط يقودهم إلى الجهاد. وقالت مونيكا ماركس ، طالبة دكتوراه أمريكية التي تدرس الحركات الإسلامية في الشرق الأوسط: ” يوجد العديد من الأشخاص الذي لديهم طموحات كثيرة ولا يستطيعون انجازها”.

أيّد كلٌ من الرئيس جورج بوش والرئيس باراك أوباما اتباع الديمقراطية باعتبارها أفضل وسيلة لإيقاف التذبذب المدمر في العالم العربي مابين الدكتاتورية العلمانية والراديكالية الإسلامية. قال مساعد وزير الخارجية لشؤون الديمقراطية وحقوق الإنسان والعمل ، توم مالينوفسكي: ” إحدى مقالاتنا عن الإيمان مدعومة بأدلة، كما آمل، وهو أن المجتمعات المنفتحة تشكل حصناً ضد التطرف، وأن القمع يجعل مهمتنا في مكافحة هذا الخطر أكثر صعوبة”.  وأضاف قائلاً: “لا توجد حالات مشابهة في العالم العربي تتماشى مع الفكرة المطروحة ماعدا الحالة التونسية، وعلى أقل تقدير،فإن الحالة في تونس تعقد الفكرة.والبلد لا يعد نموذجا يحتذى به لحل مشاكل الوطن العربي”.

قال برنارد هايكل، وهو خبير في الإسلام والشرق الأوسط في جامعة برنستون، “إن فكر الجهاد السلفي ثابتٌ جداً و بسيط بشكل لا يصدق، وبإمكانك تعلم هذا الفكر بوقت قصير جدا” . يتبع السلفيون التفسير الحرفي للقرآن الكريم وأن على جميع المجالات في المجتمع يجب أن يحكمها قانون الشريعة الصارم (على سبيل المثال ، القانون الذي يمنع تواجد المرأة في المجتمع). إن أولئك الذين يدعمون الجهاد يستخدمون حجج إلهية وقانونية انتقائية لتبرير عنفهم ضد أعداء الإسلام. إن الأهداف لا تتغير: الغرب واليهود والشيعة، والحكومات العلمانية وقوات الأمن في الدول الإسلامية، والمرتدين من المسلمين السنة. لكن العوامل التي تدفع الشباب من الرجال والنساء لتبني السلفية الجهادية هي متنوعة ويصعب تحليلها؛ توصل المسلحون إلى فكرة مختزلة باستخدام طرق ملتوية ومعقدة. فعلى سبيل المثال نشأ شاب في الرياض على سماع خطب سلفية جهادية في المساجد، ثم يذهب إلى سوريا محملاً بمساعدات مالية من رجل أعمال سعودي. وشاب سني في الفلوجة مع أبناء حيه في مقاتلة المحتل الأمريكي ومقاتلة هيمنة الشيعة الفرس . ومسلمة مراهقة في بونليو – باريس ، وجدت ضالتها في المجتمع الجهادي عبر الإنترنت لملئ إحساسها بالفراغ الروحي. يعد جزءاً من نجاح تنظيم داعش الإرهابي هو في قدرته على جذب مجموعة واسعة من الناس وجعلهم يبدون متشابهين في هيئتهم وأسلوب كلامهم وطريقة تفكيرهم.

في تونس، فإن مغادرة البلاد و الإنضمام إلى المجموعات الجهادية قد أصبحت ظاهرة اجتماعية. فإن التجنيد للمجموعات الإرهابية ينتشر مثل العدوى من خلال شبكات غير رسمية من الأصدقاء وأفراد الأسرة، وإن اختفاء أي شخص في مجتمع صغير يمكن ملاحظته بسهولة. في جربة، وهي جزيرة سياحة تقع على الساحل الجنوبي الشرقي، التقيت بفادي بن يونس، وهو مراهق يشاهد برنامج ” Last Week Tonight” مع جون أوليفر،” يطمح للدراسة في إحدى الجامعات الأميركية، قال لي وبحزن: إن بعض زملائه في المدرسة الثانوية كتبوا عبارات مؤيدة لتنظيم داعش على جدران المدرسة ومن ثم تركوا الدراسة. والد فادي، وهو مدرس وصحفي، نشر مقالا عن عائلة كاملة غادرت تونس. والد تلك العائلة، كان يعمل محاسباً، باع سيارته ذات الدفع الرباعي وخلية النحل، واستخدم حجة الذهاب في رحلة سياحية مع والدته وزوجته وأطفاله الثلاثة الصغار، وابن عمه إلى اسطنبول، قبل إجبارهم على الذهاب إلى سوريا. أسلام سولي، طالب في قسم الأشعة في تونس، يعرف شاباً مقعداً الذي انضم إلى جبهة النصرة، ثم عاد وانتهى به المطاف في السجن. لم يكن سولي متأكداً مما ينبغي القيام به مع الجهاديين الذين عادوا إلى تونس، ولكن، مثل بقية الأشخاص الذين التقيت بهم، فقد تحدث سولي عن الحاجة إلى برنامج لإعادة تأهيل أولئك العائدين إلى تونس. ولكن لا يوجد مثل هذا البرنامج.

لدى تونس تاريخ علماني ظاهر وتاريخ إسلامي متخفي – وكلاهما في حالة صراع. إذ قام الحبيب بورقيبة، وهو أول رئيس تونسي بعد الاستقلال عن فرنسا عام 1956، بتشكيل النظام التونسي على غرار نظام كمال أتاتورك العلماني في تركيا. أقر بورقيبة تعميم التعليم في بلاده، وأعطى حقوقاً للمرأة تتعدى تلك التي تحصل عليها في الدول العربية الأخرى. حظرت تونس الحجاب في المدارس والمكاتب الحكومية، وأصبح المركز التاريخي للتعليم الإسلامي “جامعة الزيتونة” تحت سيطرة الدولة، وتعيين أئمة المساجد ومراقبة تلك المساجد. وقال حاييم مالكا ،من مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن، “تفتح المساجد فقط في أوقات الصلاة، ويتم تسليم الخطب للأئمة من قبل السلطة.” معظم الأئمة الذين لايمتلكون أي شهادة في العلوم الإسلامية ، تم منعهم من التحدث بمواضيع تهم الناس مثل ؛ الفساد، البطالة، وحقيقة عدم قدرة الشباب على توفير مستلزمات الزواج”. ووفقاً لكمال، “نحن لم نتعلم شيئا عن الإسلام سوى كيفية الوضوء والصلاة.”

حكم زين العابدين بن علي، الذي أزاح بورقيبة عن السلطة في عام 1987، بقبضة أكثر صرامة وسجن الآلاف من الإسلاميين المشتبه بهم، بمن فيهم أعضاء في الحزب الإسلامي السياسي في تونس (النهضة) وهو الحزب الأكثر ليبرالية من جماعة الإخوان مسلمين. تم نفي راشد الغنوشي، الذي قاد حزب النهضة منذ تأسيسه في عام 1981،إلى لندن عام 1989.

أخبرني الغنوشي ، الذي عاد مباشرة إلى تونس بعد ثورة الياسمين في مقر حزب النهضة، “إن هذا التطرف هو ما أورثه نظام بن علي وهو ليس نتاج الثورة”. يبلغ الغنوشي من العمر أربعة وسبعين عاماً  وذو لحية، رمادية، وهو صاحب صوت منخفض أجش، وعيون غائرة، وابتسامة هادئة تعكس الثقة بالنفس. بعض العلمانيين في تونس يتهمون حزب النهضة باستخدام الديمقراطية باعتبارها استراتيجية طويلة الأجل لفرض قوانين الشريعة على الحياة التونسية. إذا كان الأمر كذلك، فإن النهضة تلعب لعبة مزدوجة مستعينة بالصبر أكثر من أي حزب إسلامي آخر في المنطقة. وقالت طالبة الدكتوراه، مونيكا ماركس:”اعتقد تماما أن النهضة ترغب في أسلمة المجتمع، ولكن حزب النهضة هو لاعب سياسي براغماتي ويتحدث عن الرغبة في إقناع الناس، وليس إجبارهم.”

قال الغنوشي :” كان هناك فراغاً دينياً في عهد كل من بورقيبة وبن علي” وأضاف قائلاُ:”حاولت النهضة أن تملأ هذا الفراغ، ولكن بورقيبة وبن علي حاولا القضاء على هذا التحرك”. وقال الغنوشي :”كانت أفعال الحكومة عدائية وردة فعل الحزب كانت مشابهة لفعل الحكومة، مما أدى إلى أن يتجه الشباب التونسي للإنضمام إلى القاعدة وماشابهها من منظمات إرهابية”.

حرص نظام بن علي على مواكبة التطور، وذلك بتشجيع الناس على مشاهدة القنوات الفضائية المختلفة واستعمال الإنترنت بشكل غير محدود. كانت الخطب الإسلامية المثيرة من قبل رجال الدين في الخليج ، من أمثال رجل الدين المولود في مصر يوسف القرضاوي، التي دخلت بيوت التونسيين وأدت إلى بغضهم للنظام العلماني في بلدهم. أخبرني أسامة رمضاني، الذي كان أحد كبار المسؤولين في عهد بن علي والذي يشار إليه بوزير دعاية النظام، ” كان المتطرفون قادرين على استخدام أدوات الاتصال لتجنيد ونشر أفكارهم، وفعلوا ذلك بكفاءة عالية.”

تولى الشباب التونسيون مناصب هامة في ثلاثة أجيال من الجهاد. إذ قاتلوا ضد السوفييت في أفغانستان في الثمانينات والصرب في البوسنة في التسعينات. نظر بن علي إلى الجهاديين التونسيين باعتبارهم مشكلة صُدِّرت إلى الخارج وبالتالي تم حلها. حوالي عام 2000 ظهرت المجموعة القتالية التونسية في أفغانستان ، كإحدى الجماعات التابعة لتنظيم القاعدة، كرست هذه المجموعة نفسها لإسقاط الحكومة التونسية. قام أحد مؤسسي هذه الجماعة، طارق معروفي، بتزوير جوازات سفر لإثنين من التونسيين، اللذين يزعم أنهما سافرا إلى شمال أفغانستان بناءً على أوامر بن لادن ، إذ تنكرا كصحفيين واغتالا قائد المجاهدين الأفغانيين، أحمد شاه مسعود، في 9 أيلول 2001. أبو عياض التونسي، زعيم آخر في المجموعة القتالية، كان أحد قادة تنظيم القاعدة؛ عندما أطاح الأمريكيون بتنظيم طالبان الإرهابي أواخر عام 2001، هرب أبو عياض مع بن لادن من تورا بورا، ولكنه تم إلقاء القبض عليه في تركيا، وتم تسليمه إلى الحكومة التونسية عام 2003 ، وحكم عليه بالسجن لمدة ثلاثة وأربعين عاماً في السجن. ساعد أبو بكر الحكيم ، وهو فرنسي من أصول تونسية، بتشكيل شبكة، أرسلت جهاديين فرنسيين إلى العراق، من ضمنهم أحد الإخوة “كواشي” الذي قام بتنفيذ مذبحة العام الماضي في مكتب تشارلي إبدو في باريس. كان هناك الكثير من الجهاديين التونسيين من بلدة بنقردان في العراق، تقع بلدة بنقردان على الساحل الصحراوي بالقرب من الحدود الليبية – قال أبو مصعب الزرقاوي ، مؤسس تنظيم القاعدة في العراق، “لو كانت بلدة بنقردان بجانب منطقة الفلوجة، لكنا قد حررنا العراق”.

 بنقردان هي مدينة ترابية ذات المنازل الإسمنتية المنخفضة، وأشجار الزيتون، وأكوام القمامة ، والرمال ذات اللون البرتقالي، والتي تضم ثمانين ألف شخصٍ. تستضيف المدينة مهرجان الجمل العربي سنوياً. لحى الرجال في هذه المدينة أطول مما هي عليه في العاصمة تونس، والحجاب متشدداً بشكل كبير، والوجوه متوترة. تقع ليبيا على بعد عشرين ميلاً من هذه المدينة التي تعتمد بشكل كامل على التهريب، كلما تقدمنا نحو الحدود الليبية رأينا شاحنات محملة بالسجاد ومكيفات الهواء والأفران الكهربائية في الإتجاه الآخر من الطريق، وكان الرجال يبيعون وقود السوق السوداء على جانبي الطريق. يتم دعم العديد من السلع الليبية بشكل كبير من قبل الدولة التونسية، الأمر الذي أدى إلى خلق سوق سوداء مزدهر في تونس وجعل بنقردان مدينة التسوق الأولى لدى التونسيين. يبلغ سعر غالون من الوقود ، ثلاثة دولارات وعشرين سنتاً في محطات بيع الوقود . يعتمد الاقتصاد الرسمي التونسي اعتمادا كبيرا على الزراعة، والتعدين، والسياحة، وأكثر من ثلث الاقتصاد في تونس هو غير الرسمي.

يقود سيارتي شخص يدعى علاء ويبلغ من العمر اثنين وعشرين عاماً وهو من مدينة بنقردان ،يحصل على لقمة عيشه من تهريب الأحذية في صندوق سيارته إلى تونس، وتبلغ الرحلة من بنقردان إلى ليبيا سبع ساعات ، ويقوم بهذه الرحلة سبعة وعشرون مرة في الشهر ، ولكن مع تكلفة الوقود ووجبات الطعام ورشاوي الشرطة قد يخسر صافي ربحه لإحدى هذه الرحلات.

استخدم الجهاديون التهريب عبر الحدود الليبية كغطاء لنقل الأسلحة والمقاتلين من ليبيا إلى تونس. استمر التهريب على الرغم من إغلاق الحكومة التونسية لطريق بنقردان الحدودي مع ليبيا لمنع الإرهابيين الذين تدربوا في ليبيا من دخول البلاد ، قام الجيش التونسي بمساعدة الأمريكيين ببناء جدار في الصحراء، يبلغ ارتفاع هذا الساتر الرملي حوالي 10 أقدام، يدعم هذا الساتر خندقاً مائياً ومعدات مراقبة إلكترونية والتي تمتد مئات الأميال جنوب البحر. كان الطريق الترابي المتعرج من الطريق الساحلي في الصحراء يعج بالشاحنات المحملة بالبضائع، ولكنه الآن خالي من تلك الشاحنات عندما كنا نسير فيها: والفجوة التي كان يمر منها المهربون قد أغلقت قبل ثلاثة أيام، مما أثار غضب السكان المحليين. قبل يوم واحد من زيارتي، تجمع سكان المدينة أمام مركز للشرطة في بنقردان ورموا الحجارة وأشعلوا النار بإطارات السيارات.

قال علاء :”إننا نختنق، لماذا لا يستطيع رجال الشرطة القيام بعملهم لإيقاف الإرهابيين والسماح للمهربين بالعبور بعد دفع الرشوة؟. ألسنا جزءا من تونس؟ . إن الثورة قد قامت بتدميرنا”.

لقد جئت إلى هذه المنطقة لمقابلة رجل سأدعوه (وليد)، وهو مواطن أصله من مدينة بنقردان، الذي كان تحت مراقبة الشرطة. مع ازدياد قوة تنظيم داعش الإرهابي في ليبيا، فقد أصبحت بنقردان بؤرة خطيرة، ولم تكن آمنة بالنسبة لنا أن نجتمع معا هناك. (في بداية شهر آذار، قامت خلية نائمة من الجهاديين التونسيين، الذين تدربوا في ليبيا من قبل تنظيم داعش، بمهاجمة مركز شرطة في بنقردان وغيرها من الأماكن، مما أسفر عن مقتل اثني عشر عضواً من قوات الأمن التونسية وسبعة مدنيين، في حين خسرت المجموعة الإرهابية ثلاثة وأربعين مقاتلاً). بدلاً من مدينة بنقردان، فقد التقينا قرب مطعم (بيتزا جوينت) على الطريق السريع والذي كان فيما مضى منتجع شعبي باسم (جرجيس). فضلاً عن وجود أوروبيين يرتادون أمواج البحر، وعدد قليل من راكبي الدرجات النارية التونسيين ،كان المكان مهجورا.

مركز الألعاب في دوار هيشر. نادراً ما تعلن عائلات أولئك الذين يغادرون للانضمام للدولة الإسلامية عن مغادرتهم خوفا من المضايقات من قبل السلطات. كانون الأول 2015. تصوير: سباستيان / النور لصالح مجلة نيويوركر
مركز الألعاب في دوار هيشر. نادراً ما تعلن عائلات أولئك الذين يغادرون للانضمام للدولة الإسلامية عن مغادرتهم خوفا من المضايقات من قبل السلطات. كانون الأول 2015. تصوير: سباستيان / النور لصالح مجلة نيويوركر

كان وليد رجلا وسيماً يبلغ من العمر ثمانية وعشرين عاماً ، وهو جهادي سابق، الذي اعتاد ان يكون ذو شعر ولحية طويلة (يشبه تشي جيفارا) ، كان يحاول أن يكتشف مكانه في بلده تونس. وكان ابن تاجر من الطبقة المتوسطة، الذي اضطر بسبب طبيعة عمله على أن تتنقل أسرته في جميع أنحاء تونس ، وعندما كان وليد طفلا، لاحظ الفرق الشاسع بين الساحل الشمالي المزدهر بالقرب من تونس العاصمة والمدن الجنوبية الفقيرة مثل بنقردان. أراد وليد تغيير نفسه، وتغيير العالم، لشيء أفضل. إذا كان وليد قد ولد قبل ثلاثين عاما، فلربما أصبح يسارياً، ولكن هذه الأيديولوجية فشلت في العالم العربي. كان يتطلع للحصول على إجابات في أي مكان ؛على شبكة الانترنت، في الأفلام، في الكتب والصحف المحظورة.

وعلى العكس من كمال، كانت المثالية هي المحفز لوليد وليس اليأس. في سن الرابعة عشرة، بعد مدة ليست طويلة لهجمات 11 أيلول، اكتشف وليد كتاب مثير لأبو محمد المقدسي، هو باحث فلسطيني- أردني لفكر الجهاد السلفي، وقد كان مرشد الزرقاوي عندما قضيا وقتاً معاً في السجن الأردني، قرأ وليد نصاً من كتاب “ملة إبراهيم” الذي كتب عام 1984، إذ استخرج المقدسي نصوصاً من الإسلام على ضرورة معارضة الأنظمة التي تتبع القوانين الوضعية بدلاً من إتباع الدين الحنيف. شعر وليد أن النخب العلمانية في شمال تونس تخفي الدين الإسلامي الأصيل عن الناس.

كان المقدسي العراب الفكري لتنظيم القاعدة، وأصبح وليد تحت نفوذ التنظيم وأعجب باستراتيجيتهم طويلة الأمد ؛ فبدلاً من مواجهة الأنظمة العربية بشكل مباشر، فقد هدفوا إلى إضعاف داعميها الغربيين أولا عن طريق سحبهم في معارك على أراضي المسلمين كأفغانستان والعراق، واستنفاد مواردهم إلى أن ينشئ المؤمنون الحقيقيون إماراتهم الخاصة. تتبع وليد تحركات الزرقاوي حينما أنشأ مقراً لتنظيم القاعدة في العراق والتي تحولت بعد وفاته إلى دولة العراق الإسلامية. إن ذبح العراقيين الشيعة لم تضايق وليد أبداً ، بل نظر إليهم كأعداء للإسلام. ولم يمض وقتاً طويلاً بمعرفة جماليات الدين الإسلامي، فقد كان وليد سياسي الفكر. عانت تونس ذات الطابع العلماني من المتشددين المتخفين من التأثيرات الدينية المحلية، الذين يعتبرون أن إسلاميتهم ،بالرغم من استياء المجتمع المتزايد، دافعاً كبيراً للثورة.

عندما كان وليد في العشرين من عمره، تم اعتقاله بتهمه انتمائه إلى جمعيات سياسة (بسبب سوء استخدامه للبريد الإلكتروني) ، وتم سجنه لمدة عامين . تم تعليقه من معصميه إلى أن خُلع كتفه وتم سجنه في زنزانة صغيرة مع ما لا يقل عن خمسة عشر سجيناً آخر.  وقد حرموا من الكتب، ولكن سمح لهم بالصلاة. كان نظام الحكم يبني قبره بنفسه ،قال وليد :”لقد كان النظام كحيوان خائف على وشك أن يموت” ، وأضاف قائلاً:” كنا نعلم أن الثورة قادمة، ونحن من قمنا بإشعالها”.

في صباح أحد الأيام بعد وقت ليس بعيداً من إطلاق سراحه،  أيقظته والدته لتخبره أن الناس خرجوا للاحتجاج في بنقردان. نتج عن الثورة فراغاً، سارع السلفيون في ملئه، كان هناك العديد منهم ، إلى أن أصبحوا عشرات الآلاف في نهاية المطاف. في شباط عام 2011 أعلنت الحكومة التونسية المؤقتة العفو العام عن آلاف السجناء، وكان من ضمنهم أبو إياد التونسي ، المؤسس المشارك للمجموعة القتالية التونسية ، وفي غضون شهرين أنشأ أبو إياد التونسي تنظيم أنصار الشريعة.

في بداية الأمر، قدم التنظيم نفسه على أنه مجموعة مختصة بالخدمة الاجتماعية. ذهب اعضاؤه من الشباب إلى الأحياء المهمشة وأدوا دور عاملين في مجال الرعاية الصحية ومدرسين دينيين. كان تنظيم أنصار الشريعة يبدو كحركة إرهابية وليست منظمة. إذ لم يكن هناك أي هيكل قيادي واضح. وفقاً لطالبة الدكتوراه مونيكا ماركس إن التونسيين قد ينضمون إلى جماعة ما وذلك بعد حضور إحدى مناسباتها أو ببساطة عن طريق الإعجاب بإحدى صفحات الفيسبوك الخاصة بها. تم تصنيف السلفيين التونسيين إلى سلفيين يلتزمون حرفياً بما ذكر في الشريعة، والذين يسعون إلى الحفاظ على عقيدتهم بشكل هادئ بعيداً عن السياسة أو السلفيين الذين يؤيدون العمل المسلح. تم توجيه تنظيم أنصار الشريعة نحو الجهاد، ووفقاً للتقارير ، فقد صرّح أبو إياد مراراً أن تونس كانت أرض الدعوة ، تقوم بإلقاء الخطب الجهادية والتجنيد،  وليست مكاناً للعنف، وذلك لأنه كان يرى تونس كدولة قوية جداً ولايمكن الإطاحة بها. قام مجموعة من النشطاء بنصب الخيم حيث أخبروا النساء ما الذي عليهم ارتداؤه، وروّجوا للعفة عن طريق توزيع منشورات ورقية. وسط حماس ثورة الياسمين ، ومع سقوط الأجهزة القمعية في تونس ، بدأ الشباب بتطويل لحاهم دون الخوف من المضايقات، وظهرن النساء في الشوارع وهن مرتديات الحجاب أو النقاب. قضت ماركس عامين تتحدث مع أتباع أنصار النهضة الشباب، وانضمت إلى مجموعة من الفتيات في مجموعة لدراسة القرآن الكريم، وذكروها بطفولتها حيث ترعرعت ضمن الطائفة المسيحية “شهود يهوه” في شرق ولاية كنتاكي. وتقول ماركس عن الفتيات :” إنهن لا يقرأن ما وراء الكلمات “المفاهيم” في القرآن ، وإنما يقرأن الكلمات فقط” . كان هناك عنصر تمرد الأجيال ،و العديد من آباء وأمهات الفتيات كانوا أعضاء في حزب النهضة المحظور سابقا ، أمّا بالنسبة للسلفيين الشباب فقد بدى لهم أن الإسلاميين المعتدلين هادئون جداً. وقالت مروى، وهي فتاة سلفية، ” إن أعضاء حركة النهضة “يلعبون بشكل آمن، ولم تكن لديهم مبادئ الشريعة الإسلامية”.

في الجولة الأولى من الانتخابات، التي عقدت في تشرين الأول عام 2011، فازت حركة النهضة بأكثر من ثلث المقاعد في المجلس النواب، الأمر الذي جعلها من أقوى الأحزاب في أول حكومة تونسية منتخبة بشكل حر. وحكم حزب النهضة في المجلس مع حزبين آخرين ،ولكن التونسيين العلمانيين ظلوا يحملون شكوكاً عميقة في نوايا حزب النهضة، خوفا من أن يكونوا كجماعة الإخوان المسلمين في مصر، ويعززوا قدرتهم للعمل على أجندة راديكالية فيما بعد. وكانت بعض من الإشارات المبكرة لحزب النهضة غامضة. وأكد الغنوشي وغيره من قادة الحزب التزامهم بالحقوق الديمقراطية واستبعاد كل ما يشير إلى الشريعة الإسلامية في الدستور الجديد. وفي الوقت نفسه، استقبل الغنوشي مجموعة من الشباب السلفيين في مكتبه وقال لهم أنهم يذكرونه بنفسه عندما كان صغيرا . “لماذا أنتم على عجلة من أمركم؟” “لماذا لا تأخذون وقتكم لاستيعاب كل هذه الأشياء التي قد منحت لكم؟ هل تعتقدون أن ما تحقق لا يمكن التراجع عنه؟ “وقال لهم أن يفكروا في الجزائر البلد المجاور ، التي هزم زعمائها  تمردا إسلاميا في التسعينات. وأضاف قائلاً :” إن المساجد في الجزائر أصبحت تحت سيطرة العلمانيين مجدداً، وطاردوا الإسلاميين. هل تعتقدون أن هذا قد لا يحدث في بلادنا؟ “وقال:” إن الرجل الحكيم هو الذي عندما يفوز بشيء فإنه يقوم بالمحافظة عليه، يضعه في جيبه، أو في خزانة ويقفل عليها بإحكام”. عندما تسرب فيديو هذا الاجتماع، اعتبره العلمانيون بأنه دليل على أن حزب النهضة كان يلعب لعبة مزدوجة.

وكان الأمر الأكثر إثارة للقلق هو احتواء حزب النهضة لأنصار الشريعة. وقالت ماركس: إن نهج النهضة هو أمر مماثل لفكرة معروفة في العلوم السياسية وهي  “فرضية الإحتواء المعتدل”. وحسب النظرية فإذا تمكنا من جلب المتطرفين في الانتخابات السياسية ، فإن مطالبهم ورغباتهم يمكن التحكم بها. ولكن فكرة منح مقعد في البرلمان للإسلاميين الراديكاليين لجعلهم معتدلين تبين إنها خطأ مأساوي.

في عام 2012، بدأت تونس بالخروج عن السيطرة. إذ سيطر السلفيون المتشددون على المساجد واعتدوا على أصحاب متاجر الخمور ،وقاموا بفرض ملابس معينة، وهاجموا الأحداث الثقافية التي اعتبروها كفرا، ودنسوا المقابر الصوفية، وهددوا النشطاء العلمانيين. اتخذت الحكومة التي يقودها حزب النهضة-موقفا سلبياَ، كما لو أنهم يقولون : “لا يوجد أعداء بين الإسلاميين. وعقد أنصار الشريعة في آيار الماضي اتفاقية في المدينة الدينية القديمة ( القيروان). إذ دعا الآلاف من الناشطين إلى تطبيق الشريعة. (في أوج سيطرة حزب النهضة فقد بلغ عدد أعضائه عشرين ألف ناشط على الأقل). في أحد الأيام من شهر حزيران ، شاهد طارق الكحلاوي، وهو عضو في حزب يسار الوسط في الائتلاف الحاكم بقيادة حزب النهضة، قافلة من الشاحنات متجهة من الضواحي الفقيرة نحو مدينة لا مارسا. قام السلفيون باقتحام البلدة لإغلاق معرض للفن التونسي المعاصر. وفي اليوم التالي، هاجم السلفيون مراكز الشرطة والمحاكم. بدا ذلك الأمر وكأنه بداية انتفاضة جديدة.

حاول الكحلاوي الاتصال بأبو عياض، زعيم أنصار الشريعة، وقيل له أنه كان مختبئاَ. بدلا من ذلك، سمح للكحلاوي مقابلة  المتحدث باسم الجماعة، وهو رجل في منتصف العشرينات يدعى بلال الشواشي. التقى الكحلاوي مع الشواشي بحضور سبعة أو ثمانية أشخاص آخرين، في مسجد في ضاحية فقيرة في تونس. سيطر السلفيون على المنطقة وتم استبدال الأعلام التونسية برايات سوداء كتب عليها آيات قرآنية. قال الكحلاوي ” كانوا واثقين من أنفسهم و تحدثوا معي بكل صراحة بأنهم كانوا يجمعون الأسلحة من ليبيا ويخفونها . وسألهم عن سبب جمعهم لتلك الأسلحة ، فقالوا له ” من واجب المسلمين تسليح أنفسهم”. (اكتشف قوات الأمن في وقت لاحق مخابئ للأسلحة، معظمها بالقرب من الحدود الليبية).

قال الشواشي ، إن الجهاديين الشباب كانوا يتبعون مساراً ثورياً للوصول إلى السلطة، وذلك من خلال فرض السيطرة على المناطق التي لهم فيها شعبية كبيرة. واستخدم عبارة “كأسماك تسبح في البحر”، وعندما ذكر الكحلاوي أن العبارة صاغها الرئيس الصيني ماو ، أجابه الشواشي قائلاً :” نحن على استعداد للتعلم من أي مصدر”. وقال انه اذا فشل التمرد في المناطق الحضرية، فإن السلفيين سيذهبون إلى الجبال والبدء بالتمرد المسلح. وضّح متطرفون آخرون للكحلاوي طريقتهم في اجتذاب سلفيين جدد؛ وذلك من خلال التقرب من معارفهم الذين يشربون الكحول ليلاً في الشوارع ويحاولون استغلال نقاط ضعفهم. ويقولون لهم إن هذه طريقة خاطئة في التعامل مع أوضاعهم،  وإن عليهم تغيير أسلوب حياتهم”. إن شاربي الخمر عادة ما يتخطون مرحلة الندم بأنهم كانوا ضعفاء في يوم ما. أخبرني الكحلاوي :” إن الذين يقومون بتجنيد الجهاديين يخالفون الضوابط الإسلامية بتعاملهم مع شاربي الكحول ، ولكنهم لايبالون بتلك الضوابط وما يهمهم هو توظيف أولئك الأشخاص في العمليات الجهادية ، فعملهم يتمحور حول تنفيذ أفكارهم وليس له علاقة بالدين” . في غضون أيام قليلة، تشتت الثورة. وقال الكحلاوي إن أبو عياض، الذي استمر بالاعتقاد بأن الدولة التونسية لا يمكن مواجهتها بالقوة الآن، “وقد لعب دورا كبيرا في تهدئة الأمور.”

بعد ثلاثة أشهر ، في أيلول، نشر فيديو فظ على اليوتيوب يسيء إلى النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) الذي أنتجه رجل أمريكي في كاليفورنيا ، والذي أثار احتجاجات في أنحاء المنطقة العربية. ففي بنغازي، هاجم أعضاء من أنصار الشريعة القنصلية الأمريكية في ليبيا وقتلوا أربعة أمريكيين، من بينهم السفير كريستوفر ستيفنز. وفي تونس، خرج المئات من المتظاهرين، وكان العديد منهم سلفيون، الذين اجتازوا جدار السفارة الأمريكية وحاولوا نهب المجمع. قام رجال الشرطة التونسيين بمواجهتهم وقتلوا اثنين منهم. كما قام المتظاهرون بإحراق مدرسة أمريكية. كان الرأي التونسي معارض للهجمات بقوة، ولأول مرة، انتقد قادة النهضة (بشكل علني) الجهاديين السلفيين. ولكن العنف لم يتوقف.

أخبرني الكحلاوي ، أنه في نهاية عام 2012 عقد أبو عياض وعدد من رفاقه في السجن لقاءً في ضواحٍ جنوب العاصمة تونس. وقرروا الإبتعاد عن استراتيجية الثورة وتشكيل جناح مسلح. كان تنظيم القاعدة في المغرب نشطاً في جبال الشعانبي على الحدود الجزائرية. في كانون الأول ظهرت مجموعة جديدة في المنطقة (لواء عقبة بن نافع) ،التي سميت باسم القائد العربي في القرن السابع الذي قام باحتلال تونس ونشر الإسلام فيه. وبعد فترة قصيرة، قام مقاتلي المجموعة الجديدة وقادة أنصار الشريعة بزرع الألغام ونصب الكمائن للقوات الأمنية التونسية. في شباط عام 2013 تم إطلاق النار على الناشط السياسي العلماني ،شكري بلعيد، خارج منزله في تونس. وبعد خمسة أشهر، اغتيل سياسي آخر يدعى محمد براهمي، أمام عائلته. كان مطلقو النار من الجهاديين السلفيين ( ادّعى أبو بكر الحكيم، وهو جهادي تونسي مخضرم ، في شريط فيديو عرضه تنظيم داعش بتنظيم عملية قتل هذين الرجلين). ومع ذلك، خرج الآلاف من التونسيين للاحتجاج ضد النهضة وتحميلهم المسؤولية بالسماح للإسلام الراديكالي أن يزدهر.

في شهر آب ، أعلن حزب النهضة أن أنصار الشريعة منظمة إرهابية. فرضت وزارة الشؤون الدينية سيطرتها على المساجد السلفية. وتم إلقاء القبض على مقاتلي أنصار الشريعة. ويعتقد أن أبو عياض قد فر إلى ليبيا. وذهب مقاتلون آخرون إلى جبال الشعانبي. والبعض الآخر ، بما فيهم الشواشي والحكيم، قد انضموا إلى التونسيين في سوريا. أما بالنسبة إلى وليد، بعد مرور عامين من بهجة الشباب بالثورة ، انضم إلى فرع تونسي صغير من جماعة  عارضت أنصار الشريعة ، وتم تأسيس مؤتمر الأمة عام 2004 ، وهو اتحاد بين تنظيمات سياسية في المنطقة العربية. وقال وليد إن الفرع رفض استهداف المدنيين، وعلى عكس أنصار الشريعة، لم يكن معارضاً للانتخابات، لكنه شارك أهداف السلفية في إقامة حكم الشريعة في بلاد المسلمين. وقد خلقت الثورة التونسية فرصة جديدة لتحقيق أهدافهم. أخبرني وليد:” “أردنا أن نكون بديلاً عن كل شيء موجود ؛ جماعة الأخوان المسلمين، واليساريين، والعلمانيين. فرأينا أن النهضة هو نوع من الخنوع، بينما مقاتلي تنظيم داعش فهم مجانين للغاية “.

في المرحلة الأولى من الحرب في سوريا، اعتبر الذهاب إلى سوريا للجهاد أمراً محترماً، وعبّر بعض سياسيي النهضة موافقتهم على ذلك. لم يتحمل وليد البقاء في المنزل بينما يتعرض المسلمون للإبادة من قبل نظام بشار الأسد. في صيف عام 2012، سافر وليد إلى تركيا ومن ثم عبر إلى الحدود السورية ويقول:” لقد ذهبت إلى هناك بدون أي تفكير، لقد جذبتني العاطفة المليئة بالشباب”. ساعد وليد في تشكيل وحدة مسلحة لمؤتمر الأمة، (لواء القتال). (وأخذ اللواء اسمه من الجماعة المتمردة الأولى التي عارضت الأسد الأب(حافظ) في السبعينات. كان اللواء حليفاً لجماعة متمردة أكبر تدعى (أحرار الشام) وكانت له علاقات ودية مع جبهة النصرة. كوّن وليد علاقات مع السوريين والمغاربة والشيشانيين، وقد حارب في المعارك ، وشهد قصف طائرات الأسد للمدنيين المصطفين للحصول على الخبز، وقام بحمل جثث الأطفال الممزقة.

فيما يتذكر وليد أوقاته في سوريا، كان يقلب الصور في هاتفه النقال، وفي لحظة ما توقف عند صورة لصديق كان قد دفنه. كانت صورة لمجموعة من مجندي لواء المقاتلين متجمعين، مع علم أزرق، حاملين رشاشات الكلاشنكوف، ملأت الدموع عيني وليد وقال “إنني آسف”. لقد كان القتال في سوريا معركة مقدسة وقضية نبيلة مشتركة، ولكنها تحولت إلى فرن لشباب المسلمين. بعد ستة أشهر في حلب، لم يرَ وليد أي هدف من البقاء في سوريا، وذهب إلى وطنه. وأضاف قائلاً:”ربما الحرب ليست هي الحل”. كان وليد غامضاً في ذكر أسباب عودته إلى تونس. إذ ذكر حادثاً مأساوياً لرفاقه الذين تم القضاء عليهم من قبل جنود النظام خارج حلب. وأشار أيضا إلى إنشاء تنظيم داعش في العراق وسوريا، في نيسان عام 2013، والتي انخرطت في صراعات داخلية مريرة مع جبهة النصرة. تحدث وليد عن أبو بكر البغدادي، خليفة تنظيم الدولة الإسلامية، بكراهية مشابهة لكراهية التروتسكيين لستالين. واتهم تنظيم داعش بتدمير المقاومة السورية ومساعدة نظام الأسد. وأعرب عن اعتقاده أن هذا التنظيم قد تم إنشاؤه من قبل القوى الغربية لتقويض القاعدة وغيرها من الجماعات الجهادية الحقيقية. لدى وصول وليد إلى تونس، اعتقل لمدة أربعة أيام. وقال للشرطة: إنه ذهب الى اسطنبول كسائح. (وفي الآونة الأخيرة، منعت الحكومة التونسية المواطنين الذين تقل أعمارهم عن خمسة وثلاثين عاماً من السفر إلى الخارج من دون موافقة الوالدين)، وأطلق سراح وليد، ولكنه وضع تحت المراقبة. كان ابن خمس وعشرين سنة. يريد وليد حذف سوريا من عقله.

في آب عام 2013، بدت تونس وكأنها تتجه نحو حرب أهلية، وامتلأت الشوارع بمتظاهرين معارضين لحزب النهضة ويطالبون الجيش التونسي بالتدخل. وكانت تونس تتعرض لركود إقتصادي. في الشهر السابق في مصر، خرجت مظاهرات كبيرة وانقلب الجيش على الرئيس محمد مرسي ومرشد الإخوان المسلمين، وتم إنهاء فترة رئاسته. كان يبدو أن تونس تسير على نفس خطى مصر. حذّر الغنوشي، زعيم حزب النهضة، الرئيس المصري ،محمد مرسي، من تقاسم السلطة مع العلمانيين، قائلا: “إما أن نتقبل الديمقراطية داخل الإسلام أو في نهاية المطاف سنقوم بطرد الإسلام من العملية السياسية، لأن الإسلام سيصبح سبباً للتجزئة، وليس سبباً للوحدة وطنية “. ولكن مرسي لم  يستمع لنصيحة الغنوشي، والآن هو قيد الإعتقال. في الثالث من آب ، ألقى الغنوشي خطبة لتظاهرة غاضبة من نشطاء النهضة، وحثهم على العمل من أجل الوحدة الوطنية، وتوصّل إلى أن حزب النهضة بإمكانه أن يستمر في تونس في حال بقاء البلاد آمنة ومتحدة. ولكي يحدث ذلك على المدى البعيد، يجب على حزب النهضة التخلي عن السلطة في الوقت الحالي.

بعد فوز حركة النهضة في انتخابات تشرين الأول عام 2011، شكّل الباجي قائد السبسي حزب نداء تونس المعارض. كان السبسي عميد العلمانيين ومنافس للغنوشي، ويبلغ ستة وثمانين عاماً، عمل كوزير للداخلية في عهد بورقيبة وشغل عدة مناصب في عهد بن علي، وقد شغل منصب رئيس الوزراء بشكل مؤقت بعد الثورة. مثّل حزب نداء تونس جماعة اليساريين ورجال الأعمال والنقابيين، اتحدوا معاً بسبب كرههم للإسلاميين . بيّن روبرت ورث في كتابه الجديد ” الرغبة للنظام: الشرق الأوسط في حال اضطراب، من ميدان التحرير إلى تنظيم داعش” ، هذين الرجلين المسنَين هما من شريحتين مختلفتين تماماً من المجتمع التونسي؛ فالسبسي هو من بقايا نخبة محبي الثقافة الفرنسية، وأمّا الغنوشي هو نجل أحد المزارعين المتدينين خارج العاصمة تونس، بدأوا سلسلة من المحادثات السرية ووضعا تونس على مسار جديد. وفي كانون الثاني عام 2014، سلم حزب النهضة السلطة بشكل طوعي لحكومة من التكنوقراط. وفضل الغنوشي تقديم مصالح حزبه على المدى الطويل على تسلم السلطة فوراً. لم يحدث مثل هذا التسوية السلمية في المنطقة العربية إطلاقاً. وتمكن الرجلان من إقناع أتباعهم بالتراجع عن أي صراع محتمل، واعتبر بعض نشطاء النهضة إن استراتيجية الغنوشي خيانة لهم. لكن تونس كانت محظوظة بمثل هذين الرجلين.

في أواخر عام 2014، فاز نداء تونس بالأغلبية في الانتخابات البرلمانية، وفي جولة الإعادة، أنتخب السبسي رئيساً لتونس. صوّت الغنوشي لمنافسه وصديقه الجديد ؛ إذ دخل حزب النهضة بالحكومة الإئتلافية كشريك صغير.

إن المصالحة بين المتنفذين في الأحزاب لم تُعطِ التونسيين العاديين، وخاصة الشباب منهم، الشعور بملكية الديمقراطية الجديدة. وبقيت السياسة لعبة مبهمة لعبها أشخاص داخليون مطلعون. عندما وصلت إلى تونس، كان هناك معركة حزبية حرّضت نجل الرئيس السبسي، الذي أراد أن تكون قيادة حزب نداء تونس أمر متوارث في العائلة، ضد الأمين العام للحزب السيد محسن مرزوق. كان من المقرر أن أقابل مرزوق في مكتبه في مقر حزب نداء تونس، ولكن في اللحظة الأخيرة أخبرني مساعدوه بالتوجه إلى فيلا بيضاء في حي راق. انشق مرزوق عن نداء تونس وكان يخطط بتشكيل حزب جديد. وأوضح أن النزاع الذي حدث على أنه صراع بين الديمقراطية والمافيوية.

بالنسبة للعديد من التونسيين، فإنهم يشعرون أن حزب نداء تونس وكأنه عودة للنظام القديم:  فينتمي للحزب البعض من سياسيي النظام السابق، ونفس التجار ، وممارسات الشرطة ذاتها. يتكون مبنى وزارة الداخلية من هيكل إسمنتي ذو سبع طوابق ومقره في وسط مدينة العاصمة تونس. يملئ سقف المبنى هوائيات وصحون لاقطة ولفائف من الأسلاك الشائكة لمنع تسلق أي شخص لأسوار المبنى من الشارع. توظف الوزارة ثمانين ألف شخصاً. هناك أحاديث كثيرة عن إصلاح القطاع الأمني التونسي، وذلك بمساعدة أموال الغرب وتدريبهم. (وجدت الولايات المتحدة بصيصاً من الأمل في هذه المنطقة المظلمة، وقررت مضاعفة مساعداتها إلى تونس في الآونة الأخيرة). ولكن الممارسات القديمة للشرطة استمرت إلى الآن – فطوال فترة وجودي في تونس ، تمت مراقبتي في الفندق الذي اقطن فيه ، وتم استجواب المترجم الخاص بي في الشارع.

في أحد الأيام، وقفت على شرفة مبنى قديم في وسط مدينة تونس مع أُنس بن عبد الكريم، رئيسة منظمة مدنية (البوصلة). أشارت نحو مبنى وزارة الداخلية، وقالت ” كان عليهم أن يحولوا هذا المبنى إلى متحف، وبدلاً من ذلك فإنهم مازالوا يستخدمونه”. تراقب البوصلة النشاط في البرلمان، ووفقا لموقعها على شبكة الانترنت، فإنها تحاول تعزيز “ممارسات الحكم الرشيد والأخلاقيات السياسية.” وأضافت قائلة:” إننا نطلق على أي شخص لديه سلطة باسم (الحاكم)، من رئيس الجمهورية إلى أي رجل أمن” . إن هذا يكشف الموقف الحقيقي بين المواطن والدولة. فإن المواطن لا يعتبر الدولة موجودة لخدمته وإنما تزداد ثراءاً على حسابه. وهذا يفكك المفهوم الكامل للمواطنة “.

ذكرت أُنس بن عبدالكريم إن نشطاء البوصلة قد أداروا حلقة نقاشية بين سكان أحدى القرى القريبة على جبل الشعانبي وممثليهم المنتخبين في البرلمان. لم يشاهد القرويون هؤلاء البرلمانيين الذين يمثلونهم من قبل . لا يوجد أي مشفى قريب من القرية ، تذكرت أُنس ما قاله القرويون ” إننا لا نشعر بالإنتماء إلى تونس” ، وأضافت قائلة:” ما الذي جلبته الثورة لي؟ وأيها النواب، ماذا قدمتم لي؟ ” .

تعتزم شركة البوصلة لتوظيف منظم مجتمعي لمئتين وأربعة وستين بلدية في تونس. . ويبلغ متوسط عمر موظفيها هو سبعة وعشرين. وكانت مكاتبها هي المكان الوحيد في تونس حيث شعرت بالتفاؤل والطاقة خلال فترة الثورة. وأعربت أُنس بن عبد الكريم عن سعادتها بمشاهدة النواب التونسيين يناقشون التشريعات تحت قبة مبنى البرلمان، بدلا من القتال في الشوارع. وقالت “كل فرد يعمل هنا لا زال يعتقد، بإنه ليس لدينا الحق في فقد الأمل، وإذا فقدنا الأمل، فماذا سيقول الآخرون عنا؟. نحن الدليل على أن شيئا ما قد تغير، أكملت قائلة: “إن ماحدث في تونس ليس تغييراً ولكنه فرصة لإحداث التغيير”. لدينا فرصة للقول كبلد عربي ومسلم بإنه لسنا مجبرين على الإختيار بين الديكتاتورية والعنف.

في صباح اليوم التالي، قدت السيارة لمدة أربع ساعات جنوب غرب تونس نحو مدينة القصرين، عند السفح الحجري البني لجبل  الشعانبي. كان المنظر على طول الطريق السريع مقفراً، ميل بعد ميل لم يكن هناك شيء سوى بساتين الزيتون ولوحات إعلانية خاصة بالحرس الوطني. في عام 1943، كان ممر القصرين هو الموقع الأول لاشتباك الجيش الأمريكي الكارثي مع فرقة البانزر بقيادة رومل، ولكن لم يعلم أحد من الذين التقيتهم بالتاريخ العسكري للمنطقة. بالقرب من مدينة القصرين ، قاد الجهاديون تمرداً مسلحاً ضد القوات الأمنية. اشتكى السكان المحليون من الضجيج المستمر من طائرات الهليكوبتر صباحاً، وأصوات القصف المدفعي ليلاً. قبل زيارتي بفترة وجيزة، تم قطع رأس راعي غنم شاب في التلال بعد الإشتباه بنقله معلومات إلى الشرطة.

إن السكان المحليين في القصرين، شعروا بإهمال الدولة لهم، وهم دعاة متحمسون لحقوقهم. لعب سكان القصرين دوراً رئيساً في إسقاط الدكتاتورية، عن طريق تنظيم احتجاجات بعد أن حرق البوعزيزي نفسه. قيل لي في كل مقهى زرته، إن نصف الأحاديث التي تدور في المقاهي هي عن السياسة. على الرغم من أن القصرين هي منطقة لتجنيد الجهاديين. ولا يشعر سكان هذه المنطقة بالغربة ،كأهالي منطقة دوار هيشر و بنقردان ، فهي منطقة نائية .

التقيت بطاهر الخضراوي، وهو ناشط محلي في الأربعينات من عمره، في أحد المقاهي الواقعة على أطراف المدينة. قال لي: إنه قبل ثورة الياسمين: “كنت اعتقد أن التونسيين أذكياء جدا ومتحضرون”. ورأى الآن الأمور بشكل أكثر وضوحاً، إذ قال :” يوجد الكثير من العنف في داخلنا والكثير من الفساد في النظام” . “نحن نبدو متحضرين، ولكنه ليس سوى وهماً وسراباً. كانت الثورة أمراً جيداً، لأنه كشف ما كان مخفياً. لقد أعطاني صورة واضحة عن كيفية القيام بالتشخيص – وما هي الأشياء الممكنة وغير الممكنة”. يشعر الخضراوي بتفاؤل كبير :”لقد اكتشفنا مواهب جديدة، وأشخاص جدد قد يتمكنون من قيادة تطور البلاد”.

انضم إلى طاولتنا رجلان شابان. وقال أحدهما ويدعى شكري سلولي، وهو موظف حكومي، “لم يتغير شيء. فقد فتحت مساحة أوسع للنقاش والانتقاد ، ولكن لم يتغير شيء في المجتمع أو الاقتصاد “.

وأشار الخضراوي إلى أن الضغط الشعبي أجبر أعضاء البرلمان إلى مراجعة تشريعات مثيرة للجدل، والتي في حال تم إقرارها، فسيمنح العفو عن مسؤولين ورجال اعمال أدينوا بالفساد في عهد بن علي.

وقال الشاب الآخر، حمزة هيزي، وهو خريج معهد إدارة الأعمال، عاطل عن العمل، ويكسب قوته من خلال إعطاء دروس خصوصية وممارسة أعمال تجارية صغيرة، :” تلك التشريعات سيتم إقرارها في النهاية”. وقال الخضراوي :” لن يسمح بإقرارها إطلاقاً”. “إنها سوف تقر”. وقال الخضراوي: “أي تحرك يبدأ بشكل صغير”.

قال سلولي :”دعونا نعود الى الفكرة الأصلية. كان هناك ثورة في تونس والقصرين، وقد تم سرقتها من قبل الأحزاب السياسية التي لم تكن تعرف ماذا تعمل، أولا النهضة، ومن ثم نداء تونس.” وأضاف قائلا: “إننا لا نشعر باهتمام الحكومة بنا بعد الثورة “. يشعر الناس بأن المناطق الساحلية،  والتي تمثل عشرين في المائة من السكان، تحصل على ثمانين في المئة من الثروة. إن ذلك يجلب الكثير من الضغط النفسي، ويشعرك بأنك وحيد، ولا توجد آفاق، ولا أمل “.

أصبح الخضراوي غاضباً وقال:”أنت تحاول أن تجعل الأمر يبدو وكأن القصرين لم تقم بالثورة”. وفتح موضوع الجهاد فيما بعد. في القصرين، فقدنا شباباً، لا تعد، ولا تحصى في سوريا، وعانينا أيضاً من القتال في الجبال القريبة، ورأى أن الجهاد قد يكون أي شيء عدا أن يكون فكراً نظرياً. أضاف الخضراوي قائلاً:” لدينا نوعان من الإرهاب. واحدٌ في الجبال ،والآخر على الساحل وهو إرهاب الأروقة الذي يدير إقتصاد البلاد. والشاب التونسي يعيش بين هذين النوعين من الإرهاب”. إن الأساليب القديمة للمراقبة قد عادت. في وسط مدينة القصرين التقيت إماماً يدعى (محفوظ بن درعا) في متجره لأجهزة الحاسوب ، كان قد عاد لتوه من صلاة العصر، ولكنه كان يرتدي ملابس جعلته يبدو كرجل يبيع الطلاء.

أخبرني الإمام :”قد يتم طردي من المسجد، وذلك لأن خطبة يوم الجمعة الماضية لم تعجب الحكومة. إذ أخبرت الحاضرين: بما أن الحكومة قد أغلقت جميع المساجد بعد الهجمات الإرهابية، فلماذا لم تقم بإغلاق جميع الحانات بعد أن أقدم مدمن على الكحول بقتل شخصين؟” لقد بدا ذلك لبعض الأشخاص وكأنه دعوة للشريعة، وبعد أن قام المخبرون بالإبلاغ عنه لدى الشرطة، أرسل مكتب الحاكم تحذيراً له يقول فيه:” في سياق رصد الأنشطة الدينية والمؤسسات الدينية في المنطقة، أحيطكم علماً بأنكم قمتم بعدة انتهاكات، تم التبليغ عنها”. تم إجبار الإمام على فتح المسجد فقط خلال ساعات الصلاة وتغيير أقفال الأبواب الرئيسية لمنع أي إستخدام غير مراقب. لقد بدا هذا التحذير كتعدٍ على جزء من الدولة – كإشارة إلى سنوات حكم بن علي.

قال بن درعا :”إنني لن أتغير، لدي رسالة علي أن أوصلها” . نظر إلي بإحدى عينيه – ولاحظت أن عينه اليمنى كانت زجاجية-  وقال: “إنها ليست نسخة متطرفة من الإسلام، وليست نسخة من الإسلام لايت. فإحدى هذه النسخ تنتهج سفك الدماء، والآخرى تتبع نهجاً “بإمكانك أن تشرب وتدخن، فهذا من حقك.” ورسالتي هي النسخة الحقيقية للإسلام.

لا تزال القصرين مختبراً نشطاً للثورة. في كانون الثاني وبعد خمس سنوات من بدء الربيع العربي، فإن رضا اليحياوي ، وهو شاب عاطل عن العمل يبلغ من العمر ثمانية وعشرين عاماً، تم مؤخراً رفض طلبه للحصول على وظيفة، فقام بالانتحار عن طريق ربط نفسه بعمود كهربائي. وتم تقليد هذا العمل من عدة شباب آخرين على الفور- إن كان الجهاد إحدى أشكال الثورة في تونس، فإن الإنتحار هو شكل آخر. انتشرت المظاهرات في القصرين احتجاجاً على البطالة بشكل واسع، وجميع الشباب الذين تحدثت إليهم في المقهى كانوا قد اشتركوا في تلك المظاهرات. ونقلت صحيفة الرويترز عن حمزة هيزي:” لم أكن أتوقع أنني سوف أكرر نفس مطالبي قبل خمس سنوات. لقد سرق النظام القديم أحلامنا “.

في 24 تشرين الثاني، قام بائع متنقل من دوار هيشر بتفجير نفسه في حافلة تنقل الحرس الرئاسي في وسط مدينة تونس. تبنى تنظيم داعش الإرهابي ذلك الهجوم، وتبنى كذلك المجازر التي حصلت في متحف باردو ومنتجع سوسة السياحي. قام تنظيم داعش الإرهابي بتدريب الإرهابيين التونسيين في معسكر خارج مدينة صبراتة الليبية الساحلية ،والتي تبعد مسافة ساعتين شرق مدينة بنقردان التونسية. في شباط، قصفت الطائرات الحربية الأمريكية مخيماً استهدفت فيه الجهادي التونسي الذي يعتقد أنه ساعد في التخطيط للهجمات على باردو وسوسة. (وليس واضحاً ما إذا كان قد قتل أم لا).

وأخبرني خميس الجهيناوي ، وزير خارجية الرئيس السبسي، في قصر ضخم في قرطاج : إن الموقف الرسمي في تونس هو أن تنظيم داعش الإرهابي ليس له وجود يذكر في البلاد، وإن الإرهاب ليس ظاهرة تونسية ، ولكنه جاء من الخارج”. ومع ذلك، فقد سمح لقانون شامل لمكافحة الإرهاب بأن تعتقل الشرطة المشتبه بهم واحتجازهم لمدة تصل إلى أسبوعين دون تهمة. ووفقا لتقرير خاص بوزارة الداخلية التونسية، أن مائة ألف تونسي ، ما يشكل واحد في المائة من السكان، قد تم اعتقالهم في النصف الأول من عام 2015. إن الأعمال الوحشية التي تقوم بها الجماعات الجهادية تطمح من خلالها إلى إثارة رد فعل مبالغ فيه، وعدد قليل من الحكومات تستطيع أن تنجو من الوقوع في فخ الفوضى.

وقال سيرجيو ألتونا، وهو مستشار الأمن الإسباني والذي يسكن في تونس، إن الدولة الإسلامية “ليست منظمة كتنظيم القاعدة الإرهابي”. وأضاف: “هناك جماعات في ليبيا كتنظيم داعش الإرهابي التي يتواجد أعضائها هناك ويقومون بالتدريبات والقتال ، ومن السهولة أن يعودوا إلى تونس”. وقال توم مالينوفسكي، المسؤول في وزارة الخارجية: إن الدولة الإسلامية لديها كل الأسباب التي تدعوا إلى زعزعة استقرار الديمقراطية في تونس، المثال الناجح الوحيد لسيطرة الحكومة على البلد بعد ثورات الربيع العربي. وقال مالينوفسكي:” إن الديمقراطيات الجديدة في أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية وآسيا في نضال مستمر مع المؤسسات الهشة ،والفساد ،وعدم المساواة الاجتماعية. تونس لديها كل هذا، بالإضافة إلى الإرهاب ودولة فاشلة مجاورة، “وهي مقاربة غير منصفة”.

بالنسبة للأجانب، أو لسكان محليين أغنياء، فإن تونس لا تزال مكاناً ساراً: فهناك المطاعم الممتازة في لا مارسا، ومدن أثرية كلاسيكية في قرطاج، ومحال تجارية ، والصناعة السينمائية الحيوية. بيّن الغنوشي “لدى تونس سحر البحر الأبيض المستمدة من مدينة إيطالية جنوبية” ، وأضاف قائلاً:” من أراد الذهب إلى المساجد فإنه يستطيع الذهاب إليها ، ومن أراد الذهاب إلى النوادي فإنه يستطيع الذهاب إليها” . إن هذا يعد أمرا غريباً في بادئ الأمر ؛ وغالباً ما يستخدم الشباب التونسي كلمة “مخنوق” الذي يشير إلى وجود شعور بالملل، والغضب، مع عدم وجود بديل سوى أن تنفجر. سمعت هذه الكلمة من وليد، ومن علاء السائق في بنقردان، وسمعتها من شاب سأدعوه (أحمد) البالغ من العمر اثنين وعشرين عاماً والذي التقيت به في احدى ضواحي جنوب العاصمة.

نشأ أحمد ضمن عائلة من الطبقة العاملة. ترك أحمد دراسته في المدرسة وأصبح كهربائياً مبتدأ، ولكن من الصعب إيجاد وظيفة ما. وأصبح مشجع لإحدى الفرق التونسية وتبعهم في أرجاء البلاد. كان ذلك وسيلة لتخفيف الضغط من كونه عاطل عن العمل، ولكن أينما ذهب هو والآخرون مع مجموعته تم شتمهم  أو ضربهم من قبل رجال الشرطة المحليين، إلا أن أحمد قد كره مجموعة المشجعين وتخلى عنها. وعندما حدثت الثورة، شارك أحمد في المظاهرات التي أخرجت بن علي من السلطة.

قال أحمد :” لقد حدث تطور كبير بعد الثورة؛ في الدين والمخدرات وفي كل شيء، وذلك بسبب الحرية الجديدة”. كان هناك تطوراً في الهجرة أيضاً، وخلال الأشهر الثلاثة الأولى بعد الثورة اتجه خمسة وعشرون ألف تونسي إلى البحر الأبيض المتوسط ​​على متن قوارب متجهة إلى صقلية. في ليلة رأس السنة الجديدة عام 2011، حاول أحمد أن يصبح لاجئاً. ولكن بحلول ذلك الوقت كانت الشرطة قد شنت هجوماً على المتسللين، ولم يكن قادراً على الاقتراب من سفينة تنقل الحاويات وقد تسلل مبتعداً من ميناء حلق الوادي. وقال أحمد لنفسه، “إذا صليت وطلبت من الله أن يتدخل فلربما ستتحسن الأوضاع.” لم توجه الصلاة أحمد إلى الإسلام الديمقراطي المعتدل كحزب النهضة. ولكن أفكاره أصبحت متطرفة بشكل أكبر إلى أن أصبح سلفياً. ترك أحمد تدخين الماريجوانا وأطال لحيته وارتدى رداءً يصل إلى كاحله يدعى (قميص). ومن بعدها ألغى صداقته مع جميع صديقاته في الفيسبوك، وتوقف عن الاستماع إلى الموسيقى، وفكر في الجهاد. وفي منتديات على الانترنت، التقى أحمد بجهاديين كانوا في العراق، وقدموا له اقتراحات لكتب معينة للقراءة. قام أحمد بتحميل كتاب فيه تعليمات لصنع القنابل. في الفترة التي تراجع فيها الامن في ظل النهضة، ذهب أحمد إلى مسجد للمتشددين في العاصمة تونس. وتواصل أحمد مع العديد من الأصدقاء الذين ذهبوا إلى سوريا، الأمر الذي أدى إلى أن تغلق إدارة الفيسبوك حسابه. أصبح بعض هؤلاء الأصدقاء قادة في الدولة الإسلامية، وكتب بعضهم في صفحاتهم أنهم يجنون خمسة وثلاثين ألف دولاراً في السنة، ولديهم زوجات جميلات. لم يتمكن أحمد من شراء علبة سجائر أو الحصول على صديقة في ذلك الوقت. ” كان ذلك جزءاً من رغبتي في الرحيل  في تلك اللحظة ” وسألت أحمد هل كان الفقر دافعاً لك للرحيل؟. “ليس حقا”، قال أحمد: “لقد كان الطريق الصحيح.”

كنا نجلس على طاولة خارج مقهى فارغة تقريبا، على طريق مظلم بين المنطقة الصناعية ومنطقة سكنية فقيرة. ارتدى أحمد الجينز وسترة من الجلد. كان يدخن السجائر التونسية بشكل مستمر و كان يفرك عينيه، والتي كان لها تألق باهت. واضاف: “إنه شعور بالانتقام من الظلم في هذا البلد،” وأكمل قائلاً:” بإمكان أي شرطي أن يهينك،  أو يهين والدتك، وبإمكانه أيضاً أن يسحبك إلى سيارة الشرطة، ويعتدي عليك بالضرب، ومن ثم يرميك خارج السيارة.” وقد حدث هذا له مرة واحدة قبل الثورة، عندما كنت عائداً إلى المنزل من مباراة لكرة القدم. كان ذلك مذلاً. إن جزءاً من الكرامة أن لا تتذرع بالفقر كسبب للانضمام إلى الجهاد.

في ربيع عام 2013، حاول أحمد مغادرة تونس مرة أخرى، هذه المرة إلى سوريا، عن طريق ليبيا. كان والده، وهو سائق سيارة أجرة، قد اخفى جواز سفره لمنعه من السفر، لذلك قرر أحمد أن يتم تهريبه عبر الحدود، وكانت أفضل طريقة لذلك هي من خلال شبكة من الجهاديين في المسجد، ولكن تم اعتقال البعض  منهم . فذهب الى بنقردان بمفرده. كان لدى أحمد صديق في بنقردان يدعى وليد. كانا يقضيان الوقت معاً في تونس ، عندما وصل أحمد الى بنقردان، طلب من وليد مساعدته لعبور الحدود. لكن وليد، الذي كان قد عاد لتوه من سوريا،حاول ثنيه عن ذلك.

وقال وليد لأحمد :”لا تذهب!” عندما إلتقيا في الشارع. وأضاف “إنه مجرد فخ للشباب لكي يقتلوا.” بالنسبة لوليد فإن أحمد كان بالضبط ذلك النوع من الشباب الذين يستغلهم تنظيم داعش الإرهابي، ساذجين، ضائعين، يبحثون عن أقصر الطرق إلى الجنة. كان لدى تنظيم القاعدة معايير أعلى نسبياً: فقد كان على البعض من عناصرها ملء استمارات طويلة التي تطلب منهم تسمية علماء الدين الإسلامي المفضلين لديهم. كان باستطاعة وليد الإجابة عن تلك الأسئلة ، أمّا بالنسبة لأحمد وغيره من التونسيين الجهاديين فإن القاعدة كانت سترفض تجنيدهم.

قال وليد لأحمد :”الموت شهيداً هو أمر جميل”. وأضاف قائلاً: “لكن الموت شهيداً على حساب شعب وأمة ليس هو الشيء الصحيح الذي ينبغي عمله. فإذا كنت تستطيع مساعدة أمتك فإن ذلك أفضل من الموت لتدمير حياة أشخاص آخرين”.

تحدث الصديقان لساعة كاملة، واعتقد وليد في نهاية الحديث أنه اقنع أحمد بأن يعود أدراجه. بدلاً من ذلك، ذهب أحمد للقاء أحد المهربين وحاولوا التفاوض معه على مبلغ مالي لعبور الحدود. ولكن المهرب أراد مبلغاً كبيراً ليس باستطاعة أحمد أن يوفره. لم يكن هناك أي وسيلة أخرى ليذهب إلى ليبيا. بعد أن فشل للمرة الثانية في مغادرة تونس، بحث أحمد عن حافلة صغيرة تتجه إلى تونس. قام شخص ما بإبلاغ شرطة بنقردان عن أحمد-  ربما كان ذلك بسبب طول لحية أحمد، أو حقيقة أنه كان شخصاً غريباً في المدينة- تم إلقاء القبض عليه وضربه من قبل الشرطة. عندما وصل أحمد إلى تونس، احتجزته الشرطة وقامت بضربه مرة أخرى، وتم إيداعه السجن لليلة كاملة، ولقد أكالوا له الشتائم ووجهوا أسئلة كثيرة حول كيفية ذهابه إلى ليبيا ومن الذي ساعده في ذلك.

سأل أحمد: “هل ستقومون بالإفراج عني إذا توقفت عن الصلاة؟” أجابته الشرطة بالإيجاب، ووقع أحمد وثيقة تقول أنه سوف يذهب إلى منزل والديه، ويحلق لحيته، ولن يعود إلى بنقردان أبداً. تلاشت رغبة أحمد في الجهاد ، وعاد إلى تدخين المخدرات. لقد ضعف إيمانه وضعف معها طموحه.

في إحدى ليالي حزيران، في نهاية شهر رمضان المبارك ، شرب أحمد دواءً مضاداً للقلق (إيكوانيل)، وهو دواء معروف في الضواحي الفقيرة، قام أحمد بضرب أحد معارفه الذي رفض إعطائه سيجارة. ثم أمضى أسبوعاً في زنزانة مكتظة بالمساجين إذ لم يكن هناك مكان للنوم. وكانت مياه الصرف الصحي تتدفق من المرحاض .وكان في الزنزانة ؛متعاطي المخدرات، والمثليون جنسياً، والسلفيون الذين فرضوا سيطرتهم الكاملة ويضربون أي شخص يتحداهم.

أرادت الشرطة أن يتهموا أحمد بتهمة حيازة المخدرات. إن فترة عقوبة هذه التهمة في تونس هي على الأقل عام واحد. وثلث المساجين التونسيين تم سجنهم بتهم تتعلق بالمخدرات. (يحاول الإصلاحيون تعديل القانون). قام رجال الشرطة بتعذيب أحمد للحصول على اعتراف منه، ولكن عندما حاولوا الحصول على عينة البول رفض أحمد ذلك لمدة يومين، حتى سكب رجال الشرطة ماءً بارداً عليه، مما اضطره إلى التبول. ولكن النتائج استغرقت وقتاً طويلاً، الأمر الذي أجبر الشرطة للإفراج عنه. عاد أحمد إلى منزل والديه، حيث توارى عن الأنظار. ولم يظهر في يوم صدور الحكم عليه.

وقال أحمد: “لقد جربت كل شيء، ولا أزال أبحث عن وسيلة للهروب، ربما إلى كندا أو أستراليا، وهي ليست رغبتي وحدي في الرحيل، وإنما كل شخص في تونس يرغب بالرحيل”.

أما بالنسبة لوليد، فقد احتجزت الشرطة جواز سفره لدى عودته من سوريا، مما لا يترك له الخيار سوى البقاء. قال وليد:”إنه ليس أمراً جميلاً أن تمقت بلدك، لكنني أمقت تونس” . وأضاف قائلاً: “إنه المكان الذي يريد أن يكون شبابه بدون شخصية، مثل الأطفال ، همهم المتعة فقط، مما يتيح الفرصة لرجال الأعمال بكسب المزيد من المال. لا يستحق هذا البلد ثواره. لقد فقدت مابين اثني عشر أو أربعة عشر عاماً في محاولة إيجاد طريقة أفضل للعيش. ربما أنا مجرد أحد الفاشلين – جزء الأغلبية الصامتة الذين يطأطئون رؤوسهم ويعملون لتكوين أسرة والبقاء بعيدا عن المشاكل “.

لم يخسر وليد إيمانه بأن الشريعة ستنقذ العالم في يوم ما، ولكن كتب على المسلمين الدخول في الفتنة، والقتال فيما بينهم، إن مصيرهم مكتوب بالدم. وتنبأ النبي بذلك. لم تعد المجموعات الجهادية بما فيها تنظيم القاعدة تمتلك الإجابات المقنعة لوضع الشباب في تونس. أراد الجهاديون الحصول على كل شيء أولا ، وهذه الإستراتيجية لن تكون ناجحة أبداً. لم يعد وليد يؤمن بتلك الحياة. وحاول يؤقلم نفسه بالتغيير البطيء وفي النهاية فقد حققت الثورة بعض الإنجازات التي يمكن البناء عليها.

وقال وليد: “نحن بحاجة إلى إصلاح بلادنا، وتعلم كيفية جعله متحضراً . في تونس، عند الانتهاء من علبة السجائر الخاصة بك فإنك ترميها على الأرض. ما نحتاج اليه هو ثورة فكرية، ثورة العقول، والتي يمكن تحقيقها بعد ثلاثة أجيال قادمة”.


جورج باكر، أحد الكتاب الرئيسين في مجلة نيويوركر ويغطي أحداث الشرق الأوسط وأفريقيا، ومؤلف كتاب “التاريخ الداخلي لأمريكا الجديدة”


ملاحظة :
هذه الترجمة طبقاً للمقال الأصلي الموجود في المصدر ادناه ، والمركز غير مسؤول عن المحتوى ، بما فيها المسميات والمصطلحات المذكوره في المتن .

 

المصدر :

http://www.newyorker.com/magazine/2016/03/28/tunisia-and-the-fall-after-the-arab-spring