بعد أكثر من عام على “الخلافة” التي جلبها داعش إلى الشرق الأوسط، تستمر الحملة العسكرية بالتقدم ضد عدوٍّ أثبت أنّه منافسٌ على الصعيدين التكتيكي والاستراتيجي، وعلى الرغم من الدعم الذي يقدمه التحالف الدولي للعراق في المعركة، إلّا أنّ هنالك جبهات عديدة أخرى لم يشترك فيها داعش بصورة جدية، وقد تكون تلك الجبهات هي الأهم، لأن الجماعات المتطرفة قد أثبتت قدرتها على تجاوز الهزيمة العسكرية والظهور مرة أخرى بعد سنوات عدة، كما هو الحال مع الدولة الاسلامية في العراق (الاسم السابق لداعش)، والقاعدة في العراق، وكذلك طالبان. إنّ الدليل الارشادي للاستراتيجية الذي يعتمد عليه داعش “إدارة الوحشية”، ينص بصراحة على أنّ المعركة تحتاج إلى أن تكون عنيفة ومطوّلة وبجبهات عدة، لذا فانّ الرد يجب أن يأخذ بالحسبان حجم الجهود التي يوظفها داعش في الجبهات غير العسكرية، ويجب تجاوز التفكير الأحادي البعد الذي يقول أنّ داعش يجب أن تُهزم في المعركة فقط.

بالتالي، فانّ الاستراتيجية المطلوبة لدحر داعش بنجاح تتطلب أساليب متعددة المسارات تعمل بوقت واحد وليس بشكل متقطّع، فهي تحتاج إلى أن تعالج مشاكل الفِكر والتعليم وتقديم الخدمات والفرص الاقتصادية والمخابرات والأمن والتصالح والتماسك الاجتماعي والتمثيل السياسي. وبالتالي فانّ معالجة هذه المشاكل فضلاً عن المشكلة العسكرية سوف يسمح للدولة العراقية بأن تفرض نفسها  من جديد وتحرم داعش من الوسائل والأماكن التي تمكّنه من إعادة بناء نفسه والتجنيد والقتال.

من غير الممكن لداعش أن يوجد من دون حصول دعمٍ لفكره في العالم الاسلامي والنصوص الاسلامية، فلطالما كانت أعمال رجال الدين المتطرفين الذين حرّضوا على التكفير العنيف موجودة حولنا لقرون، ورغم أنّ غالبية المسلمين لا يحملون آراءً كهذه في يومنا هذا، إلّا أنّ الأمر لا يتطلب سوى أقلية صغيرة تلتزم بهذه الآراء لتؤدي إلى تشكيل مجاميع مثل داعش. في الحقيقة، إن من بين المليار وستمائة مليون مسلم اليوم، تُشكّل أعداد أفراد داعش الفعّالين أقل من ٠،٠٠٢٪ ، لكن هذا العدد الصغير قد تسبب بفوضى في الشرق الأوسط العام الفائت. إنّ أعمال رجال الدين التكفيريين موجودة في معظم البلدان الاسلامية في يومنا هذا، وقد حدّث الانترنت ووسائل الاعلام المحتوى ليلائم الجمهور الحديث، ورغم أنّه من المخالف للقانون في معظم البلدان اليوم أن يتم النشر أو التثقيف وفق الآيديولوجية النازية لأدولف هتلر، إلّا إنّنا، وللأسف نرى آيديولوجيات مشابهة من ناحية التكفير في بعض البلدان الاسلامية يتم نشرها بكل حرية، بل وفي بعض المناطق، يتم الترويج لها من قبل الدولة نفسها. لهذا، ما لم يتم تحدي هذا الفِكر من قبل رجال الدين الأكثر بروزاً، وما لم يتم تغيير القوانين ليتم حظر الفكر التكفيري، فانّنا بالتزام نسبة قليلة جداً من المسلمين به يمكن أن نشهد ظهور مجاميع من نوع داعش مرة أخرى في المستقبل.

في الوقت نفسه نحتاج أيضاً إلى تشجيع زيادة التعليم للمسلمين، وليس فقط في الدراسات الاسلامية لأنّ إزالة الفكر التفكيري سوف يؤدي إلى فجوة تحتاج إلى أن تُملأ بخطاب تقدّمي متسامح، ففي العديد من البلدان الاسلامية هنالك قلّة فرص في الحصول على التعليم، وهنالك منظومات تعليمية ضعيفة وناقصة، وهنالك حرمان للأجيال القادمة من الوسائل التي تُصبح بواسطتها أفضل جاهزية للتعامل مع العالَم المعاصر، وهذه هي البيئة التي يتكاثر فيها التطرّف، في حين أنّ المجتمعات التي لديها تعليم ذو جودة عالية قد أثبتت أنّها أقلّ عنفاً وأكثر ليناً فيما يخص الآيديولوجيات المتطرفة. فيجب تعديل المناهج الدراسية لتؤكد على احترام الآخر والتسامح مع الآراء المعاكسة، وبهذا يتم إنكار صحة الفكر المتطرّف الذي هو شمولي بطبيعة الحال ويسعى إلى مهاجمة جميع الآراء غير المتماثلة معه. فلهذا، تحتاج المدارس والجامعات إلى أن تصبح المكان الذي يتم فيه تنوير المسلمين وتعليمهم حب السلام، وليس المكان الذي يتم حثّهم فيه على قبول فكرة أنّ العُنف ضرورة.

لقد سارع داعش، في كل قرية وبلدة ومدينة سيطر عليها، إلى توفير الخدمات لكي يُقنع السُكّان بأنّه قادرٌ على التصرّف كدولة، وفي بعض الحالات كان قادراً على توفير خدماتٍ أفضل من تلك التي كانت تُقدّمها الحكومة، وبالتالي يُعطي الأسباب لأولئك المحايدين على الأقل لكي لا يعارضوا وجود داعش، لأنّ عدم كفاءة الخدمات المُقدَّمة من الدولة تُعطي داعش فرصة ليكسب السكّان الساخطين، فيجب أن يُركّز جزء من الاستراتيجية على كيفية توفير خدمةٍ وحمايةٍ أفضل للمواطنين من قبل دولتهم، ويجب أن تحصل المناطق البعيدة عن العاصمة على خدمات مساوية لها، ومن ضمن ذلك تجهيز الكهرباء والمياه، وصيانة الطرق، والخدمات المالية والصحية، والخدمات الفيدرالية والبلدية، ويجب أن تكون الخدمات حصينة تجاه الفساد ليحصل عليها كل مواطن بما يخدم مصلحته لكي يحمي وظائف الحكومة في منطقته ولا يسمح للمتطرفين بمهاجمتها. وكلما زاد ما تفعله الحكومة من أجل المواطن، كلما أصبح المواطن أكثر ولاءً وأصبح من الصعب على مجاميع مثل داعش أن تخترق المناطق التي هي تحت سيطرة الحكومة.

هنالك حقيقة في جميع أنحاء العالم، وهي أنّ معدّلات الجريمة في المناطق الفقيرة والمحرومة أكثر مما هي في المناطق الثرية ومتوسطة الدخل، وبلداناً مثل العراق وسوريا قد تأخّرت كثيراً خلف بلدان عربية أخرى في ما يخص الازدهار الاقتصادي، تحديداً خلف بلدان مجلس التعاون الخليجي، وهذه الفجوة تكشف المحفزات غير الدينية وغير السياسية للسكان المحليين الذين يلتحقون بمجموعات مثل داعش. إنّهم يريدون فرصة أفضل من الازدهار الاقتصادي، وبعد أن شاهدوا نقصاً في ذلك من جانب الحكومة، فانّهم يظنّون أنّ داعش يمكن أن توفّر لهم ذلك، فأفراد داعش يحصلون على أموالٍ جيدة، وبعضهم يحصل على عقار، وعوائلهم تحصل على رواتب تقاعدية، ويمكن لهم أن يجدوا أنفسهم في وضع مالي أفضل مما كانوا عليه تحت سيطرة الحكومة. هذا الوضع يجب أن يتغير، ويجب أن يحصل السكان المحليون على فرصة ليسعوا إلى الثراء والازدهار كمواطنين في دولة مدنية سواء كان ذلك من خلال التعيينات أو من خلال ريادة المشاريع، وإلّا فانّ الظروف الصعبة، مصحوبة ببعض المشاكل التي ناقشناها هنا، سوف ترمي الناس في أحضان داعش بسبب اليأس، ولطالما كان هذا هو الحال في العراق.

منذ سقوط النظام السابق في العراق لم تستطع الدولة أن توفّر الأمن لمواطنيها، فجهاز المخابرات ضعيف، والحدود غير مؤمّنة، والهجمات ضد المؤسسات المدنية والأمنية كان لها أثرٌ مدمّرٌ على جهود إعادة الاعمار، لذا فانّ على الحكومة أن تثبت سيطرتها على جميع مناطق العراق، وتحتاج إلى زيادة إمكانياتها على المراقبة ومكافحة الارهاب، وإلى تأمين الحدود بسرعة (خاصة مع سوريا)، وإلى أن تحمي مواطنيها من السيارات المفخخة والهجمات الانتحارية بشكل أفضل لأن هذه الهجمات تستمر بتعذيب مدن مثل بغداد رغم وجود العشرات من السيطرات وأعداد كبيرة من عناصر قوى الأمن في الشوارع. ويجب النهوض بعمليات جمع المعلومات الاستخباراتية، وفي الوقت نفسه مشاركة تلك المعلومات، لمنع الخلايا الارهابية من أن تتشكل قبل أن تكون لديها فرصة الاستقرار وسط المجتمعات. لم يتحسن الوضع الأمني بشكل كبير منذ عام ٢٠٠٣، وما لم تحتكر الدولة السلاح والقوة، فانّ مجاميع مثل داعش سوف ستستمر بتحدي الدولة والسيطرة على الأراضي.

لقد عانت كل الطوائف في العراق من العنف الفضيع في العقود الماضية، ورغم ذلك لم يكن هنالك جهدٌ ملموس من أجل المصالحة التي تجمع تلك الطوائف، فلا تزال هنالك مناطق شيعية فقط، ومناطق سنية فقط (وغيرها)، مع وجود مشاعر عميقة من المرارة عند كلٍّ من الطرفين نتيجة ما يرونه قمعاً من قبل الآخر. في العراق اليوم، هنالك أعداد كبيرة من السنّة يكرهون الشيعة والعكس كذلك، وكما ذكرنا هنا، بمجرد وجود نسبة قليلة ممن يشعرون هكذا ويتصرفون على هذا الأساس تظهر لدينا مجموعات مثل داعش، في حين أنّ جهود الحكومة نحو المصالحة الاجتماعية لطالما كانت في الحد الأدنى حتى الآن، وتركز بشكل كبير على عزل الطوائف لكي تمنع العنف بدلاً من أن العمل بشكل فعّال على شفائهم وتقبّلهم للآخر. لقد تمت معالجة هذه المشكلة في بلدان أخرى شهدت عنفاً فضيعاً مشتركاً، مثل رواندا والبوسنة وتيمور الشرقية وشمال آيرلندا وجنوب أفريقيا، وفي كل حالة من تلك الحالات، لم يتمكنوا من الشفاء والمضي من دون جعل المجتمعات أن تتقبل وتحترم بعضها بعضاً، لتقلّ بعد ذلك مستويات العنف بشكل ملحوظ. لم يتم عمل محاولة كهذه في العراق حتى الآن، لكن ظهور داعش أثبت أنّها ضرورة حتمية لتحصين المجتمع ضد التطرف.

أخيراً، يجب أن نتطلع إلى تحسين التمثيل السياسي لجميع الطوائف في العراق، فرغم أنّ هنالك ديمقراطية، إلّا أنّها لا تزال بعيدة عن الكمال، وفي الحقيقة، بالكاد تعمل، وليست فقط الممارسات الديمقراطية والحوكمة هي التي تحتاج إلى تحسين، بل إنّ هنالك الكثير من السياسيين في العراق ممن يقومون بعمل فضيع فيما يخص تمثيل مكوناتهم، مهتمّين بأنفسهم فقط من دون تحسين حياة أولئك الذين انتخبوهم، ولا يزال العراق متخندقاً في المركزية والبيروقراطية الخانقة، جامعاً للسلطة بيد القلّة الذين أثبتوا أنّهم عرضة للفساد وعدم الكفاءة. ومن المفروض أن تقوم اللامركزية وإعطاء المزيد من الاستقلالية للمناطق بتحسين التمثيل وطمأنة السكان المحليين بأنّ المسؤولين الذين انتخبوهم يعملون بالفعل من أجلهم، فلقد قيل لأولئك الذين التحقوا بداعش أنّ التصويت هو مضيعة للوقت لأنّه لم يحسّن وضعهم أبداً، ومن المهم عدم السماح لهذا الأمر بأن يصبح حقيقة دائمية، وإلّا فمن الممكن أن نرى انقلاباً على الديمقراطية وعودة للحكم الاستبدادي. إنّ الحل الوحيد لشرق أوسط ينعم بالسلام والتقدم هو الديمقراطية والدولة المدنية، وإنّ مجاميع مثل داعش يمكنها أن تستشعر خطر السماح لهذا بأن يحدث، ولهذا فهم يعملون بجد لمنع حصوله.

تتضمن الإستراتيجية خطوات عدة مصمّمة لكي يكمل بعضها البعض الآخر سعياً إلى تحقيق الهدف النهائي، فلدى داعش استراتيجية متطورة بشكل جيد، ويحتاج العراق إلى إستراتيجية في القتال ضد داعش تأخذ بالحسبان العوامل التي تسمح لداعش بأن يظهر ويحافظ على وجوده، ولا ينبغي أن تكون الاستراتيجية في الجانب العسكري فقط، فقد حان الوقت للعراق بأن يذهب إلى ما هو أبعد من أرض المعركة، ويعيد بناء العلاقة بين المواطن والدولة.