نشر موقع ويكيليكس كماً كبيراً من برقيات وزارة الخارجية السعودية السرية. ويبدو أن الدفعة الأولى من هذه الوثائق التي يقدر عددها بـ 61 ألف وثيقة لن تكون الأخيرة. إذ وعد  الموقع بأنه سيقوم بنشر المزيد منها قريباً. وجاءت هذه الوثائق المسربة في وقت تحتاج فيه الحكومة السعودية إلى الهدوء لترتيب سياستها الخارجية الجديدة تحت قيادة ملك جديد. ويبدو من خلال البيان الذي أصدرته الخارجية السعودية على لسان المتحدث باسمها، أسامة نقلي مدى الحرج الذي تشعر به الرياض جراء هذه التسريبات. حيث حذر نقلي المواطنين السعوديين من تداول أو نشر أي وثائق لأن ذلك “يساعد أعداء الوطن في تحقيق غايتهم ومآربهم.”

    ولا تعطي الوثائق من خلال قراءة أولية لها إضافات جديدة غير معروفة فيما يخص السياسة الخارجية السعودية. ولكنها تلقي ضوءً من الداخل على ما يدور في أروقة صناعة القرار السعودي بالاضافة إلى بعض التفاصيل المثيرة للاهتمام. فالعربية السعودية فيما يبدو تدار على مستويات شخصية، وبشكل مباشر، حتى في التفاصيل الصغيرة وغير المهمة. إذ إن كثيراً من البرقيات السرية تتحرك في دائرة العائلة الحاكمة، وتطلب رأياً وموافقات حتى في بعض القضايا التي لا تستحق ذلك. ومن ذلك برقية موقعة باسم وزير الخارجية السعودي السابق، سعود الفيصل موجهة إلى الديوان الملكي يطلب فيها توجيه الملك لاعطاء تأشيرات دخول لمدة 15 يوماً لزوار لأحد الأميرات من العائلة المالكة.* ويؤشر ذلك على أن آلية الحكم السعودية تتحرك في أفق الإمساك بكل مفاصل القرار، وعدم السماح بتفويض اتخاذ القرار لمستويات أدنى في هرمية القيادة السعودية.

ويلاحظ أيضاً أن القيادة السعودية تعيش هاجساً كبيراً اسمه إيران في تعاملها السياسي والديبلوماسي في المنطقة. حيث تؤشر الكثير من البرقيات السرية على متابعة ومراقبة النشاط الإيراني في المنطقة بشكل غير عادي.

ويلقي الثقل الطائفي، والحساسية المفرطة من الشيعة في العراق والمنطقة بكاهله على أداء السياسة الخارجية السعودية. حيث تنخرط الكثير من النشاطات الدبلوماسية والاستخبارية السعودية في متابعة، ومراقبة النشاط الشيعي في المنطقة والعالم، بالاضافة إلى وجود عملية تأثير مباشر وغير مباشر على الأوضاع السياسية التي ينشط فيها الشيعة في المنطقة.

    تبرز الوثائق المسربة أن العراق كان في دائرة التركيز السعودي في معركته السرية ضد ايران من جهة، وباتجاه تغيير الأوضاع في البلد من جهة أخرى. وعلى الرغم من عدم توفر الوثائق كاملة، إلا أنه يمكن من خلالها تكوين صورة واضحة تتكامل مع الفهم الذي تكون عن السياسة السعودية في العراق  لدى المتابعين على مدى عقود.

ويظهر من الوثائق أن العربية السعودية كانت تستفيد من أربعة أدوات رئيسة للتأثير على الأوضاع في العراق. فالنفوذ السياسي الاقليمي والدولي للعربية السعودية، والدين، والمال، والإعلام، تمثل أضلاع مربع السياسة السعودية للتأثير على الأوضاع في العراق خلال الفترة السابقة.

حيث تشير إحدى البرقيات السرية إلى اجتماع ضم الرئيس التركي الحالي رجب أردوغان ونائب رئيس الجمهورية الحالي اياد علاوي، بالإضافة إلى آخرين –لا يمكن التعرف عليهم من خلال الوثيقة-  تم تداول الشأن السوري فيه حينها، والشأن العراقي، وذلك قبل القمة العربية التي عقدت في بغداد عام 2012.

ولا يخفى توظيف تأشيرات الحج في التعامل السعودي مع الوضع في العراق، ويبدو أن الحكومة السعودية كانت تدعم كثيراً ثلاث شخصيات سياسية عراقية بارزة في العراق. حيث تذكر  صفحة من  إحدى  برقيات الخارجية السعودية –بلا تاريخ- بأن موافقة صدرت وبشكل “سري جداً” لاعطاء تأشيرات لأداء مناسك الحج لأياد علاوي، وطارق الهاشمي، وأسامة النجيفي بواقع 2000 تاشيرة لكل منهم، على أن يحسب ذلك من زيادة عدد الحجاج العراقيين. ويبدو أن ذلك يتحرك في المساعدة في خلق دعم شعبي لهذه الشخصيات.

وتذكر إحدى برقيات وزارة الخارجية  في كانون الأول/يناير 2012 أن الحكومة السعودية قررت دعم  مؤسسة “البر والخدمات الاجتماعية” التابعة للحركة الاسلامية في كردستان العراق وجمعية التكافل الخيرية العراقية. حيث تم القرار بصرف مليوني ريال سعودي لمؤسسة “البر والخدمات الاجتماعية.” ولا يمكن الوقوف على ما تم صرفه لجمعية التكافل، لنقص في الوثيقة. ويلاحظ أن البرقيات تؤكد أن الدعم المالي والسياسي في الأغلب مرهون بالثقل السياسي والاجتماعي الذي تمثله الشخصيات والمؤسسات العراقية التي تطلب الدعم من السعوديين.

أما الجانب الإعلامي فإن السعوديين كانوا يتحركون أيضاً في دعم وسائل إعلامية، أو شخصيات ذات تأثير إعلامي في العراق. حيث تشير إحدى البرقيات “السرية والعاجلة” من عام 2012 إلى طلب قدمه ضياء الكواز، رئيس تحرير شبكة أخبار العراق  للسلطات السعودية برغبته في زيارة العربية السعودية بمعية مدير التحرير أحمد العامري، وتبادل الخبرات مع القيادات الاعلامية السعودية.

كما تشير إحدى البرقيات الصادرة عن رئاسة الاستخبارات العامة –بلا تاريخ-إلى صراحة غير معهودة في داخل منظومة الاستخبارات السعودية في النظر بشكل سلبي إلى الموقف الأميركي تجاه النفوذ الإيراني في العراق (يبدو من مضمون البرقية أنها تتحرك في أفق اجتماعات إيران 5+1 التي عقدت في بغداد). ويبدو أن الاستخبارات السعودية –على الأقل في وقت كتابة البرقية- لم تكن واثقة ولا مطمئنة للموقف الأميركي تجاه إيران.  إذ تذكر  البرقية في نهايتها  أن ايران قررت عدم إخفاء تدخلها بالشأن العراقي وإدارتها لهذا البلد، بمعنى أن العمل أصبح على المكشوف، “وهو إعلان عن تفرد ايراني واضح بمباركة أميركية.” وتضع هذه العبارة علامات تساؤل حول مديات العلاقة السعودية-الأميركية في ذلك الوقت، التي يبدو أنها كانت تتحرك في أفق الشكوك والتباعد فيما يخص الشأن العراقي.

وتؤشر بعض البرقيات على القلق الذي تعيشه الحكومة السعودية تجاه بعض التفاصيل المحرجة للسياسة السعودية، خاصة عند بروزها للعلن. إذ تطرح برقية من وزارة الخارجية من عام 2010، القيام بتحرك سعودي “سريع مع استخدام النفوذ الدولي لمنع تشكيل محكمة دولية”، فقد وردت معلومات استخبارية سعودية بشأن عزم الحكومة العراقية تقديم اسماء 50 رجل دين سعودي بتهمة التحريض على الإرهاب اذا ما تم تشكيل المحكمة الدولية.

 وتحوي البرقيات بلا شك الكثير من المعلومات المهمة التي تساعد القارئ والمتابع للسياسة السعودية على فهم الطريقة التي تتعامل من خلالها العربية السعودية مع الأحداث في العالم والمنطقة. وهي بلا شك تشكل نافذة تمكن المتابعين للشأن السعودي من النظر في ملفات واحد من أكثر الأنظمة انغلاقاً في العالم، ومن يدري فقد ينجح (آسانج)، مؤسس موقع ويكيليكس في ما فشل فيه غيره، في أن يجعل السياسة الخارجية السعودية أكثر شفافية عما كانت عليه في السابق.


* نص الوثيقة 

1