متابعة استراتيجية | مركز البيان للدراسات والتخطيط

يَتحدث المُراقبون عَن تَغيير استراتيجي في الشأن السُعودي، حيثُ يَنوي الملك سلمان القِيامَ بهِ عَبر فَتح صَفحة جَديدة معَ تُركيا وقطر والأخوان المسلمين.

الكَاتب والصُحفي البريطاني المُخضرم (ديفيد هيرست) كتبَ تَحليلاً عَن الإخفاقات الإستراتيجية السعودية مُنذ ان تولي الملك عبدالله وحتى رحليه، قَال فيها إن السياسة الخارجية السعودية تَراجعت في عهدِ الملك الراحل عبد الله بشكل كبير جداً.

عندما تَولى الملك عبد الله الحُكم، كانت إيران مُحجمة النفوذ أما المملكة العربية السعودية فكانت تمتلك نفوذا في الشمال والجنوب، بَدءٍ مِن دُول الخليج الى اليمن والاردن ومِصر والعراق في عهدِ صدام، حتى سوريا التي ارتبطت بعلاقات طيبة معَ المملكة، إذْ كانت إحدى الزوجات السابقات للملك عبد الله هي أُخت زوجة رفعت الأسد عَم الرئيس بشار الأسد. كَانت المملكة مَقراً لإبرام اتفاقية إنهاء الحرب الأهلية اللبنانية، ومأوى المصالحةِ الفلسطينية. أما الآن فقد خَسرت المملكة نفوذها في العراقِ وسوريا ولبنان واليمن وساءت علاقاتها مع جماعة الإخوان المسلمين المتواجدين في جميعِ البُلدان الإسلامية.

ويُشير (ديفيد هيرست) الى ذلك ويقول “بكُلِ بساطة لقد خَاض عبد الله الحروب الخطأ مع الحلفاء الخطأ، وخَلف فُراغاً بعدَ كلِ واحدة مِنها، شَكل دعوة مفتوحة لأعداء المملكة الحقيقيين ليدخلوا إلى المنطقة. أما الخطأ الأكبر فكانَ رد فعل عبد الله على الربيع العربي في عام 2011، إذ اعتبر عبد الله الإسلام السياسي خطراً يُهدد وجوده فتعاملَ معهُ كما لو كانَ مُوجهاً ضده شخصياً”. كلفت مواجهة المملكة للربيع العربي ثمناً باهظاً، إذ خَسرت المملكة صداقة تُركيا مما إنعكس على مواجهة إيران، وتأزمت العلاقة معَ قطر ووصلت الى درجة هددت فيه قطر بفرضِ حصار بري وبحري، وإنقسمت دُول الخليج بين مؤيد للإسلام السياسي وبين معاد لها.

إستراتيجية الملك عبدالله قَامت على تحطيمِ حزام الإخوان المسلمين في الشرقِ الاوسط وكَسرِ الحصار السياسي “المفروض قيامهُ في المستقبل” مِن قِبل الإخوان المسلمين ضد المملكة بعد 2011 في مِصر وتونس وسوريا واليمن وليبيا بدعمٍ مِن تُركيا وقطر بإعتباره تهديد للنظام الملكي السعودي، أما المحور الإيراني فإعتبرهُ الملك عبدالله خَصم سياسي لا يُهدد وجود المملكة.

المُراقبونَ رَصدوا وجود جَناحَيْن داخل العائلة المالكة في التعاطيِ مع إستراتيجية الربيع العربي بين الملك عبدالله وأبناءه وبين الأمراء “السديريين”، نَجح المَلك عبدالله وجناحهُ السياسي بقيادة رئيس ديوانه خالد التويجري ونجله متعب بن عبدالله في تثبيت هذه الرؤية. وبلغت هذه السياسة ذَروتها في الضغطِ على قطرِ مع حلفاء المملكة مِن دول الخليج وخصوصاً الإمارات العربية المتحدة بإجبارِ قطر على المصالحة الخليجية وفقَ شروط سعودية هدفها تقليص النفوذ السياسي القطري في دعمِ الإخوان المسلمين، ثم إجبار قَطر على المصالحة مع مِصر وإيقاف التحريض الإعلامي القطري ضد مِصر “السيسي”.

إلا أن (سايمون هندرسون) الباحث الأميركي في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى رأى في المصالحة القطرية – الخليجية المصرية تمهيدأً لاصطفاف أعده الملك عبدالله على أساسٍ سياسي طائفي بديلاً عَن دول حزام الإخوان المسلمين “القوة السنية” – كما كان يعد منذ 2012- التي قدمتها تركيا وقطر الى الغرب. الإصطفاف موجه بالأساس ضد المحور الإيراني ولكنْ من غيرِ الإخوان، وموجه أيضاً ضد الولايات المتحدة الأميركية بعد تقاربها معَ إيران.

هيرست رأى أن النظام المِصري رَبط علاقته السعودية بجناح الملك عبدالله وليس بالنظام السعودي ككل متجاهلاً الجناح السديري بشخصياتهِ كالأمير سلمان عبد العزيز والأميرين محمد بن سلمان ومحمد بن نايف. صِراع الأجنحة السعودية أثرَ على العلاقة السعودية المِصرية. المِصريون والإماراتيون كانوا مع تولي متعب بن عبدالله ولاية العهد مع بقاء رئيس الديوان الملكي خالد التويجري في منصبهِ بَعد وفاة الملك عبدالله‘ الصراع بين الأجنحة السعودية وصَلت الى درجة الاستقواء بحلفاء الخارج.

الرغبة الأميركية بَعد وفاة الملك عبدالله كانت في إعادة الإخوان المسلمين كحليفٍ أساسي بعدَ الإنقلاب العسكري في مِصر، ويبدو إنها رغبة متطابقة معَ رغبة الجناح السديري في تغيير أولويات المملكة بإعتبار المحور الإيراني يُشكل خَطراً أكبر مِن المحور الإخواني. هذا التوجه السعودي أدى إلى تعزيز العلاقات مع َ قطر أولاً ثم تركيا كونهما الراعيتين الأساسيتين لجماعات الإخوان المسلمين إضافة الى قُوتهما الإقليمية والدولية.

وقال هيرست “في عالم تَلعب العلاقات الشخصية فيه دوراً مهما فى السياسة، من المهم تَذكُر مَن هُم أصدقاء سلمان ومن هم أصدقاء بن نايف. فالملك يحتفظ بعلاقة وطيدة بالشيخ تميم بن حمد أمير قطر، لذا فتهديد الرياض فى العام الماضى بفرض حصار على جارتها الصغيرة أو بطردها من مجلس التعاون الخليجى يبدو الآن كما لو كان مجرد ذكرى سيئة”.

وأضاف هيرست أنه “علم مِن مصادر سعودية بأن محمد بن نايف أيضاً يَحتفظ بعلاقة وثيقة معَ كبار المسؤولين الأتراك، ومِن المتوقع أن يَسعى بن نايف إلى تطوير العلاقات مع تركيا، ليس فقط لاحتواء النفوذ الإيراني ، ولكن أيضا بسبب العلاقات الشخصية”.

ولإبن نايف خُصومة شَخصية معَ ولى عهد الإمارات محمد بن زايد، وذلك بسبب محادثة بين بن زايد ومسؤول أمريكي قبل 13 عام تمَ كشفها فى تسريبات ويكيليكس, فأثناء حديثهُ عن والد بن نايف الذى كانَ حينها وزيرا للداخلية، قال بن زايد إن “داروين كان محقاً حين قال إن الإنسان انحدرَ مِن القرد”, وعلق هيرست على ذلك “من الواضح أن التغييرات كان لها تأثير. إذ لم يحضر بن زايد تشييع الملك عبدالله ولم يحضرها الرئيس المِصري عبدالفتاح السيسى أيضاً” مع أن السيسي قَطع زيارته لسويسرا وزارَ السعودية فى اليوم التالي.

وقال هيرست إن “سياسة اعتبار الإخوان المسلمين مُنظمة إرهابية معرضة للتغيير، حيثُ استقبل الملك سلمان بنفسه رئيس حركة النهضة الشيخ راشد الغنوشى “الإخواني” الذى جاء معزيا بوفاة الملك عبدالله”. ومؤشر آخر إلى تغييرِ السياسة السعودية تُجاه الإخوان المسلمين هي إقالة وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية سليمان أبا الخيل العدو اللدود للجماعة.

يَرى مُراقبون للشأنِ السعودي أنَّ حُكم الملك سلمان سَيعود بالمملكة إلى العصرِ المُحافظ، الذي يَعتمد على رَجال الدِين وإزالة كُل المظاهر الليبرالية التي كَانت طَوال السنوات العشر الماضية. ويَرى المُراقبون أيضاً أنَ عدة عوامل سَتدفع المملكة العربية السعودية لتعزيز علاقاتها معَ المحور السُني في المنطقة لتشكيل حلِف قَادر على مواجهةِ النفوذ الإيراني المتزايد في المِنطقة والذي كان آخرهُ سيطرة أنصَار الله “الحوثيين” على اليمن.

وتَخشى المملكة مِن تَبعات أي اتفاق مُحتمل بين الولايات المتحدة ودول مجموعة (5+1) مع طِهران حول البرنامج النووي الإيراني، والذي سَيتضمن رفع العقوبات الاقتصادية عنها ومنحِها تَنازُلات سياسية تَضمن لها الاستمرار في توسيعِ نفوذها اقليمياً على حسابِ المملكة التي كانت تِعتبر الحليف الأول لواشنطن في المِنطقة.

لكنَّ الكاتب والمحلل السياسي الأردني (ناهض حتر) له رأي آخر إذ يقول “أرى أنهُ مِن الصعبِ أن يتُم حَل الخِلاف التُركي المِصري خِلال زيارة رئيسي الدولتين إلى السعودية، هُناك إمكانية لوجود نوع مِن التهدئة لكنَّ القضية الأساسية هي وجود صِراع بين الدولة المصرية والإخوان، هوَ صِراع كِسر عَظم، وكما هو معلوم فإنَ الدَولة التُركية تَدعم الإخوان والحكومة التركية إخوانية، فهل سيُقدم السيسي تنازُلات؟ استبعدُ ذلك، وهل سيُقدم أردوغان تنازُلات؟ أيضاً استبعدُ ذلك”، وأضاف “لا أعتقد أنّ هُناك شيء جِدي قَد يحدُث في هذه العلاقة، قد تَكون العملية مُجرد تَلطيف للأجواء لكن استَبْعد أن يَحصل نُوع مِن التقارب بين الجانبين”.

العلاقةُ بين مِصر والمملكة العربية السعودية علاقة إستراتيجية فالقاهرة تعتمد على المالِ السعودي ونفوذه للخَلاص مِن الأزمة الاقتصادية، بالمقابل مِصر هي مساحة الأمان الجغرافي والسياسي للسعودية المحاصرة مِن الجنوب والشرق بتهديدات أمنية وحِصار سياسي، وليس أمام المملكة إلا الاستعانة بالقاهرة عسكرياً في تأمين حدودها بإتجاه اليمن أو العراق إذا تدهورت الأمورمستقبلاً.

لذا ستضغط السعودية على مِصر والإمارات العربية المتحدة لتحسين علاقتيهما معَ قطر على اساسِ لُعبة هادئة تَتضمن جَماعة الإخوان المسلمين. بالمقابل قد تتوجه كُل مِن مصرَ والإمارات إلى الضغطِ على الرياض بتواصل أكثر معَ المحور الإيراني.

وبالنتيجة قد يَطلب الملك سلمان مِن الرئيس السيسي التصالح معَ الإخوان المسلمين وتقديم التنازُلات بما يُحقق للسعودية تقارباً أكثر معَ قطر وتركيا على أساس إصطفاف طائفي جديد في الملف السوري أو الملف العراقي أو في مواجهة داعش التي قد تَطرق أبواب المملكة في أيِ وقت.